في إطار الندوة التي نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي فى مدينة أطار قدٌم د/ البكاي ولد عبد المالك محاضرة تحت عنوان : العادات المكرسة لمخلفات للاسترقاق في المجتمع الموريتاني - مقاربات أولية ، العادات المكرسة لمخلفات للاسترقاق في المجتمع الموريتاني - مقاربات أولية:
الخطة :-
مقدمة
تحديد المفاهيم
1- مفهوم العادة
2- مفهوم الاسترقاق
II- المحور الأول- العبودية ومخلفاتها في موريتانيا
1- النواحي الفقهية والقانونية
2- النواحي الاقتصادية والتربوية
3- الآثار النفسية والاجتماعية
III- المحور الثاني- بعض العادات المكرسة للاسترقاق
مقدمة :
سنتناول هذا الموضوع من زاويتين أو انطلاقا من محورين اثنين : محور عام يتم فيه تحديد الموضوع وتأطيره في إطاره العام وهو مسألة مخلفات الاسترقاق في موريتانيا وسبل القضاء عليها ولن نطيل الوقوف عنده كثيرا لأننا نخشى أن يصبح "عادة" لدينا نظرا للمعالجات المتكررة له والتي أصبحت الآن معروفة لدى الجميع.
ومحور خاص يتم التطرق فيه إلى الجانب السوسيولوجي المحض المتعلق بالعادات المكرسة للاسترقاق تحت سؤال عام هو : ماذا بقي من الاسترقاق؟
تحديد المفاهيم :
1- مفهوم العادة :
للعادة معان متعددة تختلف بحسب زاوية النظر : في اللغة والشرع وفي الطبيعة والاجتماع إلخ :
من الناحية الاشتقاقية العادة هي ما تعوّد الإنسان فعله في الذهن أو في الواقع ومنها قول المتنبي :
لكــــــل امرئ من دهره ما تعــــــــــــــــــــــودا وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
أما من الناحية الفقهية فقد تناول الفقهاء والمتكلمون العادة من منظورات متعددة : ومن أبرز أقوالهم فيها القاعدة الفقهية التي تقول: العادة كالشرع ما لم تخالفه: والحقيقة أن العادة لا تخلو من أحد أمرين فإن هي وافقت الشرع في مضمونها أو في مقصدها فهي شرع وليست عادة وإن هي خالفته فهي محرمة وليست من الدين في شيء.
وقد قال ابن رشد عن العادة بأنها : " لفظ مموه إذا حقق لم يكن تحته معنى إلا أنه فعل وضعي مثل ما نقول: جرت عادة فلان أن يفعل كذا وكذا يريد أنه يفعله في الأكثر".
وعليه فإن العادة لفظ لا يستقيم استعماله في كل الأحوال : لا للإشارة إلى الموجودات لأنه لا عادة إلا لذي نفس ، ولا إلى الله تعالى لأنه يستحيل أن يكون له تعالى عادة، يبقى أن العادة يشار بها فقط إلى الإنسان وإلى قوة مخصوصة فيه هي العقل : عندئذ تكون العادة ناجمة عن حكم العقل على الموجودات وبالتالي فهي ليست شيئا آخر سوى فعل العقل الذي يقتضيه طبعه وبه صار العقل عقلا وحتى في هذه الحالة فإن العادة جائزة وليست ضرورية.
أما الغزالي فقد تناول مسألة العادة من أجل نفي الفاعلية السببية عن الطبيعة وربطها بالفاعل الحقيقي الذي هو الله جل وعلا من ذلك قول الغزالي : الاعتقاد فيما يظن في العادة سببا ليس ضروريا عندنا : بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا..
أما من الناحية النفسية فالعادات هي أنماط مكتسبة من الاعتقاد أو السلوك اللاشعوري لدى الفرد يتكرر القيام بها .
وقد حدد علماء النفس شروطا ثلاثة لممارسة العادة ولا يمكن للعادة أن تحدث بدونها :
المعرفة والرغبة والمهارة :
المعرفة النظرية للشيء المراد فعله ، والرغبة فيه أي عنصر الدوافع ، والمهارة وهي القدرة على القيام به.
من الناحية السوسيولوجية :
العادة هي عبارة عن أنماط سلوكية موروثة أو مكتسبة يشترك فيها أفراد مجتمع معين أو جماعة اجتماعية معينة.
خلاصات سريعة :
بناء على التعريفات السابقة يمكننا الخروج بالخلاصات التالية :
* العادة ليست علما ولا تصلح لأن تكون أساسا لعلم صحيح :
* العادة صفة من صفات الموجودات الناقصة وهي دائما دليل على وجود النقص
2- مفهوم العبودية :
من الناحية الاشتقاقية :العبودية هي حالة شخص يوجد في تبعية مطلقة لسيد يتمتع حياله بإمكانية الاستغلال والتصرف باعتباره ثروة مادية ( ).
ومن تعريفاتها اللغوية أيضا : حرمان بعض الناس لبعضهم الآخر من الحرية لغرض إخضاعهم للعمل الإجباري غير المعوض في أغلب الأحيان.
أما من الناحية الاجتماعية : فالعبودية هي إخضاع جماعة اجتماعية لنظام اقتصادي وسياسي يحرمها من كل حرية ويجبرها على ممارسة أصعب الوظائف دون مقابل سوى المأكل والمأوى.
أما من الناحية القانونية فتوجد عدة تعريفات صادرة عن هيئات أممية ودولية معنية بالموضوع.
فقد عرفت اتفاقية "عصبة الأمم" المتعلقة بالرق لسنة 1926م في مادتها الأولى العبودية بأنها : "حالة أو وضع الشخص الذي تمارس عليه صفات التملك أو البعض منها فقط".
أما المنظمة الدولية للشغل فقد تبنت سنة 1930م تعريفا للعمل الإجباري القريب في دلالته من العبودية بالقول : "لفظ العمل الإجباري يعني كل عمل أو خدمة مفروضة على شخص تحت طائلة التهديد مهما كان نوع ذلك التهديد ويقصد بذلك العمل الذي لم يقم به الفرد بمحض إرادته".
أما اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بإلغاء الرق سنة 1956م فإنها تحيل إلى اتفاقية عصبة الأمم المذكورة آنفا وتضيف في فقرتها الأولى بعض الإضافات تتعلق بـ: "مؤسسات وممارسات شبيهة بالاسترقاق مثل : الخدمة بسبب الديون ، الخدمة المنزلية والزواج القسري".
وقد حدد المؤرخ المعاصر المتخصص في العبودية أوليفييه غرينويو Olivier Grénouilleau في كتابه : "ما هي العبودية ؟ تاريخ عام" ، العبودية في نواح أربع :
* العبد هو كائن بشري وهو نظير لنا (في العرق والأصل والدين) لكنه تحول إلى "آخر جذري" (un autre radical) "إثر مسار طويل من نزع الطابع الاجتماعي (désocialisation) ونزع الطابع الثقافي (déculturation) ونزع الطابع الشخصي (dépersonnalisation)بشكل جعل منه شخصا منبوذا ومستبعدا من علاقات القرابة ولا يمكنه ممارستها على أبنائه ".
* العبد مملوك لسيده . ويفضل غرينويو استخدام لفظ التملك (possession) على لفظ الملكية (propriété) للإشارة إلى الطابع الكلياني الشمولي لهذه التبعية : فالسيد يمتلك شخص العبد وليس مجرد عمله فحسب: فلا يمكن للدولة أو المجتمع التواصل معه إلا بوساطة سيده.
* الفائدة الكونية للاسترقاق : الاستغلال المفرط غير الإنساني في كافة المجالات.
* الخاصية الرابعة تنبع من الخواص السابقة إذ العبد يشهد هدرا لإنسانيته واعتباره تارة شيئا من جملة الأشياء ، وتارة حيوانا وتارة آلة فإذا ما تم اعتباره إنسانا فهو إنسان يحاذينا أو يجاورنا يخضع انتماؤه لمجتمع البشر لوساطة سيده.
خلاصات سريعة : يمكن أن نستخلص من خلال التعريفات التي وقفنا عليها بعض الخلاصات :
* العبودية واقع بائس يحل ضحاياه موضوعيا في مرتبة دون الإنسانية وأعلى من الجمادية والحيوانية وهم مسلوبو الحرية والإرادة والفعل.
* العبودية فعل بشع ترفضه القوانين والشرائع والأعراف الدولية .
المحور الأول : العبودية ومخلفاتها في موريتانيا :
يمكن تناول مسألة العبودية في موريتانيا من ثلاث زوايا :
* من النواحي القانونية والشرعية
* من النواحي الاقتصادية والتربوية
* من ناحية الآثار الاجتماعية والنفسية
1- النواحي الشرعية والقانونية :
أولا- من الناحية الفقهية :
لن نستطرد كثيرا في هذا الجانب نظرا إلى أن المقام لا يتسع كما أننا لن نتبع في هذا الجزء من العمل المنهج التاريخي في معالجة هذه القضية وبصفة عامة يمكن القول بأن قضية الرق في النطاق الصحرواي عامة وفي موريتانيا خاصة كانت موضوعا للكثير من المعالجات الفقهية قديما وحديثا . وقد حسمت المسألة بنفي أي وجود شرعي للرق في موريتانيا بسبب انعدام أسبابه وهي الكفر وسنكتفي في هذا الصدد بمثال واحد من الفتاوى المحرمة للاسترقاق في النطاق الصحراوي هذا المثال هو فتوى أحمد بابا التمبكتي.
وقد كان لي الشرف في الإشراف على رسالة ماجستير في إحدى الجامعات العربية تتضمن تحقيقا ودراسة لفتوى مشهورة لأحد أكبر علماء المنطقة وفقهائها في موضوع الرق هو أحمد بابا التمبكتي فتوى تحرم الرق في النطاق الصحرواي تحت عنوان : "مراقي الصعود في حكم نيل مجلوب السود" وقد حرر العلامة أحمد بابا التمبكتي تلك الفتوى ردا على سؤال ورده من علماء توات بالجنوب الجزائري حول الرق في النطاق الصحرواي . وقد قضى العالم والفقيه الصحراوي سنتين كاملتين في التحقيق حول المسألة انتهى منه إلى الجزم بتحريم العبودية في النطاق الصحراوي عامة وفي صحراء الملثمين خاصة نظرا لانعدام أسبابها وهي الكفر. وقد استعرض رحمه الله في تلك الفتوى التي تقع في خمسين صفحة من الحجم الكبير مصادر الاسترقاق في المنطقة ومدى شرعيته وانتهى إلى القول بعدم جواز اتخاذ الرقيق حتى ولو كان كافرا ضمن نفوذ البلاد الإسلامية.
بناء على أن هناك بعض النواقص تتعلق بالناحية الشرعية بحكم العادة وانتشار الظاهرة تاريخيا وسيطرتها على العقول أحيانا بطريقة لا واعية فإن هناك حاجة ماسة إلى تطوير الخطاب الديني حول المسألة وهو ما سنتعرض له في المحور الثاني من هذه الورقة.
ثانيا – النواحي القانونية :
الخطوة الأولى هي تلك التي اتخذتها الإدارة الاستعمارية ممثلة في فرنسا بإلغاء الرق في كامل مستعمراتها ومن بينها موريتانيا . أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في المواد التي تضمنهتا مختلف دساتير الدولة الموريتانية الناشئة والتي أقرت المساواة أمام القانون بين المواطنين الموريتانيين.ويميل البعض إلى الاعتقاد بأن قرار إلغاء العبودية على يد الحكومة العسكري سنة 1981م لم يضف جديدا طالما أن الأمر كان حينها عبارة عن تحصيل حاصل.
وقد دأبت الحكومات الموريتانية على سن تشريعات مناهضة للعبودية في مسار متدرج تمثلت أولا في تحريم الممارسة من النواحي القانونية والشرعية نظرا للمفاسد الكبيرة التي تترتب عليها للمجتمع والدولة. وقد تكللت تلك الخطوة بفتوى سنة 81 ثم التشريعات اللاحقة : التجريم سنة 2007م ، دسترة التجريم واعتبار الممارسة جريمة ضد الإنسانية سنة 2011م، إنشاء "وكالة التضامن" لمعالجة المشكلات الاقتصادية والتربوية للكثير من ضحايا الاسترقاق بالإضافة إلى منحها حق التقدم كطرف مدني للدفاع في المحاكم عن ضحايا الاسترقاق ، إنشاء محكمة خاصة بذلك وقد تكلل ذلك بالاتفاق مع الهيئات الدولية على خارطة طريق لتصفية ما بقي من ممارسات وتقديم المعالجات المناسبة لجميع الآثار المتعلقة بالاسترقاق ...
إلا أيا من تلك الإجراءات القانونية لن يكون كافيا للقطع مع هذه الممارسة المنافية لأحكام الشرع والقانون والمواثيق الدولية إلا بتضافر جهود الجميع علماء ومثقفين وحقوقيين وإعلاميين وساسة . وتأتي هذه الندوة المنعقدة اليوم في مدينة أطار وما سبقها من ندوات في كيفة وكيهيدي بمبادرة من وزير التوجيه الإسلامي والتعليم الأصلي وبتوجيهات من رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز لمضاعفة الجهود لتصفية ما بقي ما آثار هذه الظاهرة الهدامة. فلنكن جميعا مخلصين في جهودنا لمحاربة هذه الظاهرة وهذا أمر أساسي.
وهنا أشدد على فكرة أساسية وهي ضرورة التناغم بين جهود الجميع في مختلف القطاعات في محاربة الظاهرة : فلا يجب أن تكون النواحي القانونية والتشريعية متقدمة على النواحي الفقهية.
2- النواحي الاقتصادية والتربوية:
وقد أظهرنا في الندوة التي نظمتها المجلس الأعلى للفتوى والمظالم والندوات التي نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية الصلة الوثيقة بين المقاربة الاقتصادية والمقاربة التربوية في معالجة آثار الاسترقاق : وقد أظهرت في تلك المعالجات الدور المنطقي الذي يخضع له ضحايا الاسترقاق وهو كالآتي: لكي يتعلموا لا بد أن تتغير أحوالهم ولكي تتغير أحوالهم لا بد أن يتعلموا.
لذلك نرى أنه لا حل لهذه المشكلة إلا من خلال المقاربة الاقتصادية والمقاربة التربوية بالتكامل بينهما. لذلك فإن الحل يمر حتما بسياسة التمييز الإيجابي في مجال الاقتصاد والتربية: في مجال الاقتصاد هو الدعم الكبير لنمط الإنتاج الذي يتبعه معظم أفراد هذه الشريحة وهو الزراعة المطرية ، وفي مجال التربية إنشاء المناطق ذات الأولوية التربوية .
3- الآثار النفسية والاجتماعية :
تتمثل الآثار النفسية في شيئين عقدة الاستعلاء من جهة والشعور بالدونية من جهة أخرى وما يترتب على هذين العاملين النفسيين من ممارسات اجتماعية تتنافى مع مبدأ الحرية و ثقافة المساواة.
ويعد هذا الجانب أقل جوانب العبودية خطورة وعلى الرغم من أن جزء من هذا الجانب يتعلق بالإرادة البشرية إلا أن عامل الزمن والتطور الطبيعي للأشياء كفيل بالقضاء على الكثير من الجوانب النفسية والاجتماعية للعبودية.
من الناحية الشرعية لا تزال هناك بعض النواقص بحكم العادة وقوة انتشار الظاهرة تاريخيا وسيطرتها على العقول بطريقة لا واعية وأعتقد أن هناك حاجة لتطوير الخطاب الديني حول المسألة والإشارة إلى أن النصوص التي كانت تعالجها حالها حال الكثير من المسائل لم يعد لها ما يقابلها في الواقع . وإذا كان التشوف إلى الحرية هو ميزة الدين الإسلامي وإحدى فضائله الكبرى فلماذا التشبث بالاسترقاق ونصوصه بعد أن زالت الظاهرة من الوجود لا في بلدنا فحسب بل وفي جميع بلدان العالم الإسلامي تقريبا.وبالتالي فإن دور العلماء في توجيه العامة وتصحيح تصوراتها حول المسألة بما يتوافق مع التشريعات الوطنية والدولية هو مسألة على قدر كبير من الأهمية بل يمكن القول بأن رواسب العبودية لن تزول من الأذهان إلا بتدخل العلماء.
هناك جزء آخر من المسؤولية في القضاء على الرواسب النفسية والاجتماعية للعبودية تضطلع به الصحافة والمدرسة في التركيز على قيم المساواة والعدالة والابتعاد عن كل ما من شأنه زرع التفرقة والشعور بالدونية.
المحور الثاني : بعض العادات المكرسة للاسترقاق :
يمكن تقسيم العادات السلبية المكرسة للاسترقاق في المجتمع الموريتاني بحسب نظام مزدوج من حيث تعلقها بالذوات الفاعلة أو من حيث تعلقها بالأفعال أو الصفات على الرغم من أنه يصعب الفصل بين الصنفين مثلما يصعب الفصل بين الذات والصفات:
فمن حيث تعلقها بالذوات الفاعلة هناك عادات سلبية متعلقة بالمسترقين وأخرى متعلقة بالمسترقَّين ولا يمكن الفصل بينهما من حيث أن كل عادة من تلك العادات في الوقت الذي تكون فيه إثباتا في هذه الكفة تكون سلبا في الكفة الأخرى المقابلة.
أما من حيث تعلقها بالأفعال أو الصفات فهناك عادات سلبية مكرسة للاسترقاق تتعلق بالذهن وأخرى تتعلق بالسلوك والعادات . الصنف الأول من هذه الصفات وهو الصنف المتعلق بالعقل هو في الواقع عادات داخلية وفعل من أفعال العقل أو الفهم (l’entendement)لكنها قد تتجسد في أفعال خارجية ملموسة أما الصنف الثاني وهو العادات المتعلقة بالسلوك فهي عادات خارجية بطبيعتها تتجسد دائما في أفعال مرئية.
وفي نفس الوقت قد تتعلق عادات سلبية بالذوات لكنها عادات ذهنية أو فكرية وقد تتعلق بالصفات أو الأفعال وهي في ذات الوقت عادات سلوكية أو ممارسات خارجية.
والحقيقة أن الصنف الثاني من العادات السلبية المتعلقة بالذهن والتي تتم ممارستها بطريقة واعية أحيانا وبطريقة لا واعية في أغلب الأحيان أكثر خطورة من غيرها لأنها عادات سلبية في التفكير وأمراض للعقل تنتقل عن طريق التعلم والمحاكاة من الفرد إلى المجتمع ومن المجتمع إلى الفرد وأثرها متعدي وطويل الأمد هذا هو مصدر الخطورة فيها.
ولعل من أهم العادات السلبية المكرسة للاسترقاق :
* العظمة الزائفة وعقدة الاستعلاء عند بعض المسترقين ويقابلها عند الطرف الآخر عند المسترقين عقدة الدونية والشعور بوطأة التراتبية الاجتماعية وفي كلتا الحالتين الأمر يتعلق بشعور وهمي صادر عن الصيرورة الارتكاسية للعقل و هي في الواقع عادة ذهنية تنجم عنها ممارسات سلوكية و اجتماعية كثيرة .
مظاهر هذه العادة السلبية للعقل عديدة ومتنوعة لا تنحصر في المسترقين والمسترقين بل تتعداهم إلى المستويات الاجتماعية الأخرى كالقسمة الثنائية المعروفة للمجتمع إلى عرب وزوايا وهي القسمة العمودية والقسمة الأفقية المتعلقة بـ "الطبقات الاجتماعية" : إيقاون المعلمين حراطين وغيرهم :
تتجلى هذه العادة السلبية بوضوح من خلال نظام الطبقات المغلق القائم على التقسيم الصارم للعمل بطريقة بدائية يجعل كل طبقة من الطبقات تبسط نفوذها على مجال معين من الإنتاج المادي أو الرمزي وتستحوذ عليه فيصبح ملكا لها بالوراثة يتوارثه أفرادها جيلا عن جيل يتساوى في ذلك الصالح منها والطالح والفاشل فيها فشلا ذريعا والناجح . ولا يخفي ما تتضمنه هذه المسألة من خنق للإبداع و قتل للمواهب ... النجار لا يلد إلا نجارا والحداد لا يلد إلا حدادا والمطرب لا يلد إلا مثله والفقيه لا يلد ... والعالم لا يلد ...
قد لا تبدو هذه الفكرة مأساوية إذا تعلق الأمر بجميع جوانب الإنتاج المادي وبعض جوانب الإنتاج الرمزي لا لأن الأمر كذلك بل لفرط تعودنا كالمعتل الذي تعود على العيش والنشاط بجزء من جسمه فحسب ، فقد يعيش الإنسان بعمل جزء من دماغه فحسب ، كذلك هو الجسم الاجتماعي قد "يعيش" معوقا أو مشلولا ، وحيا بأجزاء كثيرة معطلة منه .
صحيح أن هناك بعض الاستثناءات على هذه القاعدة يمثلها بعض الأشخاص الذين "انتصروا" على هذه العادة السلبية المزدوجة : عقدة الاستعلاء والشعور بالدونية وهم قلة ولا تتجاوز دوائر قليلة لا تقدر على مواجهة المجتمع .
* وقد ارتبطت بهذه العادة الذهنية كذلك ظواهر سلبية أخرى منها النزعة الجاهلية للاعتداد بالنسب والتفاخر به وهو ما قاد إلى ظاهرة غير مسبوقة في نحت سلاسل النسب التي لا تشوبها شائبة والتي لا نجد لها مثيلا حتى في الجزيرة العربية ذاتها ولا في ما جاورها مع أنها جميعا تنسب نفسها إلى ذلك الإطار الجغرافي وليس إلى أي إطار آخر هذه الظاهرة التي ربطها بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع بالمناخ الذي كان سائدا في البلد وهو مناخ "السيبة" وما نجم عنها من ضرورة البحث عن قيم واقية (valeurs refuges) .
* من العادات السلبية المكرسة للاسترقاق كذلك :المعرفة والجهل : نعم المعرفة والجهل : فئة تفرض عليها القيم الأرستقراطية القبلية ألا تتعلم وألا تشتغل بالعلم لاعتبارات تتعلق بالقيمة والمقدار .
وعلى الرغم أن معظم ضحايا هذه العادة السلبية هم الأرقاء في الماضي والأرقاء السابقون في الوقت الحالي الذين كان وضعهم الاجتماعي يمنعهم من التعلم لأسباب متعددة إلا أن من بين ضحاياها أيضا جزء من الأرستقراطية القبلية ذاتها التي كانت منظومات القيم الفئوية لديها تمنعها من التعلم باعتباره قيمة سلبية بالنسبة إليها.
* من العادات السلبية المكرسة للاسترقاق : الفقر أو عبودية الحاجة : وعلى الرغم من أن هذه الصفة تكاد تكون عامة لأفراد المجتمع الذي ينتمي على دائرة المجتمعات النامية إلا أن تأثيرها يبدو أكثر وضوحا في شريحة الأرقاء السابقين لأسباب تاريخية معروفة .وبما أن انعدام الملكية هو من أهم الانعكاسات السلبية للاسترقاق فإن العبودية الحقيقية التي يرزح تحتها العديد من أبناء شعبنا هي عبودية الفقر والحاجة وعدم الاهتداء إلى طريقة للنهوض والخروج من بوتقة الفقر والتخلف المادي.
* من العادات المكرسة للاسترقاق أيضا : الجمود وغياب التجديد عند الفقهاء : انتشار الثقافة الفروعية في هذا القطر وغياب الاجتهاد في بلاد المغرب عموما الذي طارت به عنقاء مغرب على حد تعبير العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم . هذا الأمر هو من العادات السلبية في التفكير في الخطاب الديني الذي ظل يجتر بعض النصوص التي أنتجتها اجتهادات فقهاء آخرين في سياقات زمانية ومكانية مختلفة ولم يراع في ذلك ضرورة اشتقاق الأحكام من الواقع الموار بالحركة والتغير .
* لذلك سأضيف عادة سلبية أخرى ترتبط بالعادة السابقة أشار إليها ابن خلدون في كتاب المقدمة وهي : الذهول عن التغير الدائم : لأن أحوال المجتمعات كما يقول ابن خلدون لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر وكذلك هي الأحكام الفقهية متغيرة بتغير الأحوال والأزمنة : هذه العادة السلبية نجدها منتشرة في منهج التعليم التقليدي وفي الخطب داخل المساجد وأحيانا في بعض المناهج المدرسية لدينا.
وحتى نصوص الفقه المالكي الذي انتشرت لدينا من خلال أعلامه المعروفين : خليل والحطاب والدسوقي و القيرواني وغيرهم ليست بالضرورة مطابقة لواقعنا في خصوصياته الجغرافية والاجتماعية والثقافية الفريدة من نوعها والمغايرة بطبيعتها لأحوال المجتمع المصري أو الليبي أو التونسي . فإذا كانت أحوال المجتمع الموريتاني (العربي البدوي المشبع بالثقافة الإفريقية المغاير في بنيته الاجتماعية الخاصة لمجتمعات الجوار كافة عربا وأفارقة ) مغايرة للسياقات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات التي أنتجت فيها تلك النصوص في تلك الفترة فما بالك بالمجتمع الموريتاني في القرن الواحد والعشرين ؟!
* هناك عادة سلبية أخرى تكرس الحنين إلى الاسترقاق في مجتمعنا : التكاسل والاتكالية والعزوف عن العمل واتخاذ الخدم في البيوت وخاصة من طرف الذين لا تسمح دخولهم المادية بذلك. فليس من الصعب أن تجد الأسرة الضعيفة ماديا العاجزة عن توفير مصاريف التمدرس والغذاء الصحي لأبنائنا وهي تستعمل الكثير من العمال المنزليين من الموريتانيين وغيرهم.
* الصنف الأخير من العادات المكرسة للاسترقاق هو العبودية الحضارية وهي لا تخص مجتمعا ما من مجتمعاتنا العربية أو الإسلامية رغم كثرة الموارد. وفي نظرنا أن هذا الصنف من العبودية هو على صلة بنمط معين من التفكير يغض الطرف عن أهمية القوى المادية في بناء الحضارة ويركز بشكل كبير على القوى الروحية ويبالغ في نزعته التصوفية القائمة على الهروب من الواقع . هذا الأمر هو الذي انعكس في بعض الخطابات المعادية للحضارة بمفهومها المادي وهو ما يتجسد إما في نزعة ارتكاسية عدمية وإما في نزعة تصوفية تنشد الخلاص الفردي ولا تلوي على شيء .وفي كلتا الحالتين نحن بعيدون عن معيار الوسطية الذي هو جوهر الدين الإسلامي قال تعالي (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) صدق الله العظيم.
الخاتمة :
أن المسؤولية الكبرى في محاربة العادات المكرسة للاسترقاق تقع على عاتق الفقهاء في مجتمعنا لأن مجتمعنا مجتمع تقليدي لا يزال الخطاب الفقهي يتمتع فيه بمكانة كبيرة عند العامة وعند الخاصة على حد سواء لذلك لا بد من إخلاص النية في ذلك العمل .
وغني عن البيان أن كل هذه العادات لا أساس لها في الشرع ولا في القانون وليس لها ما يبررها في عالم اليوم : وأن كل عادة من هذه العادات السلبية ضحيتها هو المجتمع برمته حتى وإن وقع العبء الأكبر على مكون واحد من مكوناته.
والخلاصة هي ضرورة إعادة النظر في منظومة القيم لدينا وفي أساليب التفكير من أجل التخلص من القيم السلبية التي تكرس الاسترقاق وتزرع التفرقة بين مكونات شعبنا حتى لا نعطي الفرصة للقوى المعادية للنيل من وحدتنا التي هي صمام الأمان بالنسبة إلينا ولن يكون ذلك إلا بتضافر الجهود وإخلاص النية في كل ما نقوم به.(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون).صدق الله العظيم
من صفحة الوزير السابق : د/ البكاي ولد عبد المالك