في جانبي القطار تبدو هذه الأهوار ثملةً بجمالها المفرط. معها يتقاسم نظراتي كأسُ شاي “إيرل غراي” المُركَّز الحمرة وكوب الحليب الساخن الذي يصحبه. نعْـبُر هنا ثُنائي مرصوف (كارل الأكبر) ودرب (يوليوس قيصر). يغطيهما برسيم الماء الساخر من تهور الأجيال المتعاقبة والسنديو المتوّج بأوراقه الدائرية. تُصافح سكّةُ القطار أحدَ رموز صراعات الألْتنة والجرْمنة. هنا تنام عشرون قرنا ارتسمتْ بها ولها الدول الوطنية الحالية. ورغم الألفية التي تفصلهما فقد تَساوى الأمبراطوران في الثرى قرونا قبل أن يلحق بهما عمر الخَيام. كدتُ أتراجع عن تنبيه نادلة مقهى القطار المهذّبة إلى أني لم أطلب شايا. رغم ما للأخير بأغلب أنواعه من مكانة خاصة عندي، فقد أصبحتْ منذ ربع قرن القهوة ُ “الأيسبريسو” هي رفيقتي في وجع الرحيل الدائم. “من يُكثر من ألأسفار، يصبح أجنبيا في بلده” كما يرى (ديكارت) في خطاب المنهج. والواقع أن من يكثر من الأسفار يصبح أجنبيا في كلّ بلد. وشتاءات مدن البرد والريح بل وبقية الفصول الحزينة عنيدة في تأييدها لقهوة الإيطالي (أنجيلو موريوندو).
بلغتْ سرعةُ القطار مداها في اتجاه الضفة الشرقية لنهر “الراين” : “رينانيا وسْتفاليا”. مفهوم ألا يحنّ القطار الألماني إلى (لييج) التي تشيعنا وهي تتباهى بطابعها الفرنسي وبالعِقْد المرصَّع بألقابها المتزاحمة : المدينة المتوهّجة، مدينة المائة برج، أثينا الشمال، إلخ. عندما بدأتْ الحرب العالمية ألأولى في شهر أغسطس هذا (وللجرمان دائما حساب خاص مع أغسطس) منذ مائة عام فإنّ الرايخ الثاني دشّنها بمعركة (لييج). صراع الألتنة والجرمنة هو بمعنى ما الوريث الأكثر مركزية لصراع ضفتي المتوسط.
حين كان الشاعر (بيترارك) يجوب المدن الأوربية في القرن الرابع عشر بحثا عما بقي من مخطوطات (العصر القديم) استوقفتْه (لييج). ما لم يعثر عليه في روما، التي يسميها قلبَ العالم وملكةَ المدن والصخرة الصلبة للإيمان الكاثوليكي، وجدَه هنا. مفاتيح السردية الإحيائية التي سيورثها (بيترارك) أو (أبو الإنسانيين) للقرون الأوربية الموالية كان ينتظره سنة 1333 في أثينا الشمال: عثرَ هنا على مرافعة (سيسرون) عن أستاذه (أرشياس). ورغم شكوى (بيترارك) من أنه لم يجد في هذه المدينة حتى ما يكفي من الحبر لإنقاذ قلمه فقد بالغ في الثناء عليها وسمّاها بعد هذا الكشف بالبنت الكبرى لروما.
بدأ الموضوع أواخرَ القرن الثاني قبل الميلاد حين دُعي الشاعر الفيلسوف (أرشياس) إلى روما. قدِمَ من أنطاكية وأيونيا، من بلاد (طاليس) و(أنكسيماندر)، في جنوب غرب تركيا الحالية. قَدم إذا من منطقة مَنْ يسمون بالفلاسفة الأوائل أو الفلاسفة الأسيويين. واستطرادا فمسقط رؤوس الفلاسفة الأوائل أصبح اليوم على بعد أميال قليلة من مسقط رؤوس وقلوب ضحايا الرؤوس المجوفة.
أرادتْ روما أن تتعلم الفلسفة من المهاجر الأنطاكي. ولكن الأخير كان أيضا على موعد في العاصمة اللاتينية مع ما سيصبح أكثر من ألفي سنة بعده مصيرَ مهاجري القوارب التائهة حول المدينة نفسها. فجأة أخذتْ روما تنظر إليه كما ستفعل “لامبيدوزا” مع المنكوبين الذين يتساقطون على ضفافها. ربما لو كان قُـدّْر(لبيترارك) أن يتعرّف على مهاجري (لامبيدوزا) الذين تداعوا من الضفاف المحيطة بالمتوسط لما تحمّس كثيرا لدفاع (سيسرون) عن الفيلسوف الأنطاكي. ولربّما لم يعمل على جعل هذا الدفاع إحدى الركائز المؤسسة لسردية التحقيب الثلاثي التي ما تزال تبنين التصور الأوربي الذاتي. لم يكن (بيترارك) يخفي نقمته على المسلمين. قال إنه قرأ فلسفتهم وشعرهم فلم يجد إلا سخفا. (بيترارك) الذي لُـقّْب أب الانسانيين لم يكن تماما أجنبيا على التكفيريين السابقين واللاحقين في تحريضه ضد ما سيسميه (أتيين جيلسون) بـ”الرشدية الفلسفية والسياسية” المتصاعدة حينها في البندقية و(بادوفا) و (فلورانسا) و(آنجي) وباريس و(كولونيا). لم يكن مثلا (أرنست رنان) في القرن التاسع عشر أومؤخرا (سيلفان جوجنهايم)، في مستويات معينة، إلا أصداء بعيدة لأيديولوجيا (بيترارك).
من (لييج) إلى (آخن) : يفتخر الألمان أن هذه هي أول سكّة قطارية دولية عرفها العالم. ويدعي الفرنسيون أن خطّ السكّة الذي يربط (ستراسبورغ) بـ(بال) هو الأول. لا يوجد شبر في هذه الأرض إلا ويحمل بصمات الصراع العبثي للأخوة الأعداء. حين كانت حرب الأمين والمأمون تحصد الجموع في بغداد كان (لويس الأول) المعروف بالتقي يستعدّ في (آخن) لاعتلاء مملكة الغرب خلفا للأب (كارل الأكبر/شارلمانيْ) الذي منحَ اسمه لهذه المملكة : الكارولنجية (تسميه المصادر العربية القديمة ‘قارلّه’ ملك الفرنجة). لا يبدو أن ابن (كارل الأكبر) تعلّم من أخطاء هارون الرشيد الذي كان يعتبره صديق والده. فبرحيل (لويس التقي) ثلاثين سنة بعد اعتلائه العرش ستتكرّر حرب الأمين والمأمون في شكل معارك اقتسام الغرب بين أبنائه الثلاثة : (لوثر الأول) و(لويس الثاني) و(كارل الأصلع). لم ير اتفاق (فيردين) النور إلا بعد أنْ احمرّتْ هذه الأرض بدماء جماعات الجرمان وجموع الكلتيين. قبيلة الفرنجة الجرمانية التي مثّلتْ رمزَ وحدة الغرب أصبحتْ فجأة رمزا لتفكّكه. من هذه الحرب وُلدتْ فرنسا الغربية (فرنسا الحالية – الألمان مازالوا يسمونها بطرافة مملكة الفرنجة : Frankreich) وفرنسا الشرقية (جرمانيا – التي أصبحتْ الرومانية المقدّسة ثم ألمانيا الحالية) وفرنسا الجنوبية (إيطاليا). هكذا اقتصّ الرومان من الجرمان على طريقتهم. قد يسخر الجرمان من الامبراطور (أغسطس) حين سَمَّى هذا الشهر باسمه ومنحَه هذا اليوم الإضافي كي يتساوى عدد أيام شهري الصيف ويتقاسمهما الإمبراطور مع خال أمه الدكتاتور. لم يكن مفيدا كثيرا أن يحاول (كارل الأكبر) طمْر درب (يوليوس قيصر) تحت مرصوفه. فللأقدار سخريتُها اللاذعة. ولقصة الجمال البارع لأخت قابيل كما يحبّ الرواة إعادة سردها وتعديلها مسار بشري طويل لم يزدد مع الزمن إلا ثخونة.
حمرة الـشاي تسمح لي بمقاومة قهوة (أنجيلو موريوندو). تبدو لي ألوان الشاي كألوان البشر لا يعتمد إطلاقها على معطى موضوعي. فـمثلا الـ “إيرل غراي” الذي يسميه الصينيون الشاي الأحمر يعتبره الأوربيون الشاي الأسود. تماما كما أن الأخيرين يرونَ أنفسهم بيضا ويلقّبون الصينيين بالصفر. عبارة بني الأصفر تُطلق في العربية على الأوربيين كما تُطلق بني الأحمر على الفرس. أما الجاحظ فكان يعتبر السواد لون سكان الجزيرة العربية (كتاب فخر السودان على البيضان). سمعتُ مرّة الشاعر المرْتنيكي (أدور غليسان) يردّ ساخرا على أحد محاوريه : “لا أدري لماذا تقول نحن البيض، بينما لونك أحمر قرنفلي. هذه لغة خرافية.” أيا تكن الألوان فقد سمحتْ لي نكهة الشاي اللذيذة أن أتخلى عن الصحف المولعة بحبس الأنفاس وأن استبدلها بمرافعة السلام لـ”أراسمس الروثردامي”. في هذه الآفاق الفاتنة شيء ما مُوَلَّد يطمح إلى أن يصالح الألتنة والجرمنة. فيها تمتزج غزليات (أبولينير) بالسونيات التوسلية لـ(بترارك). طريف أن يؤلِّف أميرُ الإنسانوية ـ كما يٌلقب (أراسمس) ـ مرافعتَه هذه ليقررّ، بسذاجة غير ساذجة، أن الانسان هو أقل الحيوانات إنسانية وأكثرها ميلا إلى العنف ضد الإنسان. وحمرة الغيوم التي تحتضننا هنا حزنًا تتأمّل مع المعري : “والّـذي حـارَت الـبَرِيّةُ فِـيهِ / حَـيَوَانٌ مُـسْتَحْدَثٌ مِـن جَماد.”
والحق أن لدالية المعري في هذه (الفنيات العالية) حضور مهيب. فكأنَّ صمتَ الرُكَّاب بجنبي صلاةُ غائب أو حاضر على كل الذين فارقوا أنفسهم هنا حربا بعد حرب: “ربّ لحد قد صار لحدا مرارا”.
هل ماتزال هذه الأهوار تتذكر ذلك الصعلوك القادم من أقصى المنكب البرزخي : أحمد مبارك فال المعروف في تاريخ الملاكمة بــسيكي باتلينغ Siki Battling))؟ هذه الزوايا المتوّجة بدموعها احتضنتْه مكرهةً قبل مائة سنة وهو مجنّد في الحرب الكونية الأولى يصارع الموت على طريقة المتنبي في كل زاوية من زواياها (تمرستُ بالآفات حتى تركتُها / تقول أمات الموت أم ذعر الذعر). التجنيد هنا كناية كما الملاكمة استعارة (بحسب عنوان رواية ‘جان ماري ابْرتانيْ’ التي تستلهم سيرة مبارك فال). كناية عن الاعدام في مقصلة الدرجة الأخيرة. كانت الخطّة المعلنة التي نَظَّرَ لها قبليا جنرالات الحرب كـ(شارل مونجين) في كتابه “القوة السوداء” هي وضْع المستقدمين من افريقيا في صدر مُرَبّع الموت لتحصين الآخرين في المواقع الخلفية. حتى (بليز دياني) الذي كان الفرنسيون حينها يعتبرونه صوت افريقيا (أول نائب في البرلمان الفرنسي عن غرب افريقيا، وثاني منتخب مسلم في نفس الهيئة) فقد بدا متحمسا للفكرة مقابل منْح من سماهم حرفيا “الأكثر تطورا في افريقيا” حقّ المواطنة. الملاكم القادم من حلبات مرسيليا وباريس أدركتْه أصوله رغم تكْـليله في الملاعب. وُضِع مبارك فال منذ اليوم الأول للحرب مع المستقدمين من المستعمرات. ودُفعوا إلى خطّ النار. ظلّ هناك في “الأَردين” وهنا في هذه الأهوار طيلة سنوات الحرب. ثم تمرّسَ بالآفات حتى تركها ليعود إلى حلبة الملاكمة. ثمّ ليصبح أول إفريقي يُتوج على عرشها بعد أن حصل فجأة تسونامي في الهرمية الاستعمارية. في ملعب (بيفالو) بضاحية (مونروج) جنوب باريس هزَمَ مبارك فال بطل العالم : الملاكم الفرنسي (جورج كاربانتيي). الكاتب الأمريكي (أرنيستْ همنغاوي) الذي كان حاضرا في الملعب لتغطية المباراة كتب أن الصور النمطية التي يحملها الأوربيون عن الأفارقة أخذتْ هنا تهتزّ وتترنح مع اهتزاز وترنّح (كاربانتيي).
بعد هذا الطوفان الرمزي بـ 64 سنة وفي أحد أكثر شتاءات باريس صقيعا أخذ الباهي محمد يستلهم شيئا ما من ذلك وهو يكتب قبالة السوربون أمام تمثال (ميشال دمونتينيْ) بين ساحة (بول بينلفي) وشارع المدارس. من أين جاء مبارك فال والباهي محمد وأين تعلما القرآن في المنكب البرزخي؟ يمكنهما أن يجمعا بين السُليك بن السُلكة وقيس بن المكشوح في الإجابة : “خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثمّ منازل قومي”. أو ” خذ بين مهبّ الجنوب والصبا. ثم سرْ حتى لا تدري أين ظلّ الشجرة. فإذا انقطعتْ المياه فسر أربعاً حتى تبدو لك رملةٌ وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي”.
كان (أبولينير) و(آنري ماتيس) و(جان كوكتو) و(ماكس جاكوب) و(بيكاسو) من المندهشين عشية الحرب بالأداء الرياضي لهذا (السُليك) البرزخي. وهو ما عبّروا عنه جميعا صراحة في بعض أعمالهم. وكانوا مندهشين أكثر بقصة قدومه من (سينلوي) في حقائب الراقصة (فاوكنبيرغ).
عبارات مثل “ماوراء البحار” و”الصحراء” و”ملتقي السنغال والمحيط” كافية حينها لتأجيج الخيال الباريسي. ومنذ البداية كانت قصة مبارك فال أقرب إلى الأسطورة. تعلّقتْ به الراقصة الثرية (تختلف الروايات حول أصولها الهولندية أو الألمانية). كانت في جولة عرض إلى عدة بلدان ورستْ سفينتها في توقف مرحلي بمدينة (سينلوي)، أي في ملتقى البحرين (السنغال والمحيط) بحسب التعبير المحبب لدى المتصوفة. بدأتْ القصّة فعليا حين رأتْه ذات زوال وهو في الثامنة من عمره تطفو سمرتُه بين فواصل الأمواج الهادرة يسابق رفاقه من أطفال (اندرّ) تحت جسر (لوي فيديرب). الأوربيون العابرون أو المقيمون يتسلون برمي قطع نقود من فوق الجسر كي يَدخل هؤلاء الأطفال السمْر في سباق مع الأمواج الماردة لاقتناصها. كان مبارك فال قد جعل عدْو السُليك في التلال وثوبا برْقِيًا في النهر. خطفتْه (فاوكنبيرغ) كما كانت ربما تنشل أي تمثال صغير أو (بالا palla) يعجبها في سندباتياتها. ولكن عكسا للسليك الذي انقذتْه فكيهة فإن مبارك فال ستضيعه (فاوكنبيرغ). فحين وصلتْ مرسيليا ملّتْه وتركتْه طفلا مشرّدا “لا أهل ولا وطن ولا دار” في أرصفة مدينة تطحنها عصابات الجريمة وتُلقب شيكاغو فرنسا.
لاحظ (أبولينير) سنوات قبل الحرب تزايد عدد المسلمين في أوربا. وفي نفس السنة 1912 التي بدأ فيها متابعة مسار مبارك فال كان مهتما بأخبار مسلم آخر احتفى به في مقال تحت عنوان “السويدي المسلم”: “يبدو أن دين محمد يتقدم في أوربا، ربما في فرنسا أو على الأقل في ألمانيا والدول الاسكندنافية”. بدا له الأمر حينها غرائبيا. أو على الأقل هذا ما يوحي به افتتاحه لمقاله : “الرسامون التكعيبيون تمتّعوا في الفترة الأخيرة بزيارة أحد الرجال الأكثر فرادة، يصعب تخيله حتى في الحلم. فالسيد أغيلي سُويدي ومسلم” (Le Mercure de France, sept. 1912).
أشياء متعدّدة جمعتْ ربما مصير الشاعر المقتول بمصائر المجنّدين المسلمين الذين حملَ معهم السلاح هنا في خطّ النار. من بينها أنّ أغلبهم التهمتْه المعارك الأشدّ دموية والأنفلونزة الأكثر فتكا. أشياء يختصرها ميخائيل نعيمة الذي كان معهم في هذه الأهوار بعد أن اقتيد باسم التجنيد الاجباري من واشنطن إلى هذه الجبهة :
“أخي ! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ
وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّـّــمَ بَطْشَ أبطالِهْ
فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا
بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشِعٍ دامٍ
لنبكي حَظَّ موتانا”
كان هنا أيضا (لوي آراغون) و(جان جيونو) مجندين وهما حينها دون العشرين. هنا عرفا صدمتهما الأولى. كتبَ مثلا جيونو في روايته (القطيع الكبير) : “الطلّ يلمع فوق معاطف الموتى… أزيلتْ كل حياة. لم تعد هناك أشجار ولا أعشاب ولا حقول …”.
يحتاج الوقت لإيمائتين. صعاليك الفنانين المتسكعين جنب كنيسة القلب المقدّس تمّ منْحهم متحفَ (مونمارتر) في شارع (كورتو)، شارع الرسامين الذي جمع انطباعية(رنوار) بـتكعيبية (بيكاسو). وهو أيضا الشارع الذي كانت تقيم فيه عائلة أغيلي عبد الحديد حسب (أبولينير). أما المسلمون الناجون من (فيردين) و(لاسوم) و(طريق السيدات) فتمّ منْحهم سنة 1926 المسجد الإشهارـ بعبارة مصالي الحاج ـ في الحي اللاتيني. جدرانه الأندلسية غرب شارع (جوفروا سينت إلير) تتأمّل صامتة جثمان سليمان الحلبي (ما اقتطعه ‘دومينيك جان لاري’)، وهو ينتظر (غودو) قبالتها في متحف الإنسان بحديقة النباتات. قبل وبعد نقل المتحف إلى قصر (شايو) ظلّ الحلبي إلى سنة 2002 يلتفت إلى جثمان ساوتشه (ما اقتطعه ‘جورج كفييه’) المعروفة باسم (سارة بارتمان) ويقول مع امرئ القيس “ أجارتنا إنا غريبان هاهنا …إلخ”.
في أزمنة الوجع يكثر من “لا بواكي لهم”. سليمان الحلبي ما زال ينتظر في هذا المتحف. أما هي فقد تداركها أحفادها. نٌقلَ جثمان ساوتشه أو فينوس السمراء إلى أهلها في افريقيا الجنوبية وظلّتْ تلوح للحلبي خلف دموعها : “أما آن لهذا الواقف…”.
وُلدتْ سنة الثورة وإعلان حقوق الانسان والمواطن لتكتشف أنها ستعيش حياة إلغاء حقوق الانسانة وستعرف في متحف الإنسان ثم جنب ساحة حقوق الإنسان أقصى امتهان لجسد هذا الأخير. جريمتها ؟ جمالها ولونها.
ربما من حسن حظها أنها لم تعش معنا اليوم في زمن الفتنة العظمى. قال ابن الأثير عن الاجتياح المغولي : ” لا شكّ أن من يجئ بعدنا إذا بـعُد العهد، ويرى هذه الحادثة مُسطّرة ينكرها ويستبعدها، والحقّ بيده. “(الكامل). يبدو (جوفروا سينت إلير) و(جورج كفييه) الآن هاويين بالمقارنة مع أحفاد السياف مسرور الذين يدعون أنهم مسلمون ويقصلون المسكينات بالحجارة أمام عائلاتهن. يَجمع (سينت إلير) و(كفييه) بهؤلاء أنهم جميعا يتذرعون بالقيم ليبرروا وحشيتهم. فـلا يوازي ما يرتكبه البشر من جرائم ضد القيم إلا ما يرتكبونه من جرائم باسم القيم.
د/ بدى ولد ابنو
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل وأستاذ بجامعة دوفين في باريس
27/11/2014