لم يعرف الوطن العربي منذ زعامة الرئيس جمال عبد الناصر وهجاً لقائد، كما كان حالُ أمين عام حزب الله بعد انتصار المقاومة عام 2006 على الغزو الاسرائيلي للبنان. ذهبت عائلاتٌ عربية كثيرة من بيروت حتى نواكشوط الى تسمية أبنائها باسم السيد حسن نصرالله. رُفعت صورُه في الساحات وتقدّمت راياته التظاهرات. صارت عبارته الشهيرة :" انظروا اليها تحترق" شعارا لتحوّل مفصلي في الصراع المرير مع اسرائيل. تململ قادةٌ عربٌ كثيرون من هذا الوهج فتم تسويقُ شعار :" الهلال الشيعي" كمقدمة لضربه خصوصا بعد تعميق وتظهير تحالفه مع ايران.
لم يعرف قائدٌ لبنانيٌ أيضا، حضورا وعلاقاتٍ دولية متنوّعة وانتشارا داخليا وعربيا، بقدر ما كان عليه حالُ الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فهو كان في يوم واحد، يستطيع أن يتناول فطوره مع الرئيس جاك شيراك وغداءه مع رئيس وزراء باكستان، وعشاءه عند الرئيس حسني مُبارك. ولم يعرف لبنان رئيس حكومةٍ قدّم كل تلك المنح التعليمية لآلاف الطلاف، وأيقظ بيروت من تحت الركام، وأيقظ معها الاحلام، وأنعش الحركة الاقتصادية وآمالاً كثيرة في لبنان بعد حربه الأهلية، رغم انقسام اللبنانيين بين مؤيد بعمق له مشكك بأهداف مشاريعه.
كان لذاك الوهج الشيعي-السُنّي احتمال جعل لبنان فعلا الدولة الأكثر قوة سياسيا وأمنيا واقتصاديا بالتعاون مع العمق المسيحي السياسي والمالي والثقافي، لو أن الأمور سارت على طريق تنفيذ الأحلام ولم تغرق بأتون الأوهام. ولو لم يتم اغتيال الحريري قبل انتصار 2006 بنحو عام.
جاء اغتيالُ الحريري ووهجِه أيضا بعد عامين على غزو العراق. في تلك السنوات الأربع التي سبقت وأعقبت الاغتيال، وما سبقها من اعتداءات ارهابية على برجي التجارة في نيويورك عام 2001، انقلب المشهدُ رأس على عقب: أطلّت الفتنة السُنيّة-الشيعية برأسها القبيح، وصار الاسلام بمجمله تحت مجهر الادارة الاميركية بقيادة جورج بوش الابن الذي نصّب نفسه داعيا للخير ضد محور الشر. فكان نصيبُ لبنان من الفتنة أكثرها.
المنطقة العربية مُستعدة دائما لفخاخ الفتن، هي تسقُط فيها مع كل زمن، فيُصبح شحذُها بدعم حليف خارجي أهم من الوطن، وتزداد على الشعوب المآسي والمِحَن، من العراق ولبنان الى سوريا والبحرين واليمن.
لا داعي لذكر كل ما حصل في هذا التاريخ، فهو من صُنع أيادي أهله وليس من المريّخ. لكن ماذا الآن:
·غدا الأحد سيُلقي الرئيس سعد الحريري الذي ورث جزءا من مال والده وكل ّعلاقاته على طبق من ذهب. وهو بعد جولته الى الامارات وفرنسا وتركيا، عاد أكثر تشدّدا بمواقفه حيال تأليف الحكومة، وقال ان لا تنزالات ولا تغييرا في الموقف. لعلّه كان بحاجة لهذه الجولة العربية الاقليمية التي قادته أيضا الى مصر، كي يستعيد شيئا من الدعم، ويستعيض عن الغياب السعودية المقلق.
·يوم الثلاثاء يُلقي الأمين العام لحزب الله خطابا، هو سيكون الاطلالة رقم 25 له منذ عام تقريبا بين خطاب وكلمة متلفزة وحوار. واذا كان لهذه الاطلالة علاقة بذكرى الشهداء، الا أنها تأتي في ذروة انسداد الأمل بتأليف حكومة، وبعد تعرّض الحزب لسلسة من الاتهامات الاعلامية والسياسية المركّزة في أعقاب اغتيال الناشط السياسي والناشر لُقمان سليم.
يقول أمين عام تيّار المستقبل أحمد الحريري : "ان الذي قاله الرئيس سعد الحريري اليوم في قصر بعبدا هو غيضٌ من فيض الذي سيقوله في ذكرى 14 شباط". فهل أن الرجل سيرفع مستوى الاتهام السياسي لمن يعتقد انه يعرقل التأليف، أي الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني جبران باسيل، وسيؤكد على ثوابت المبادرة الفرنسية، وعلى أن المعرقلين يتحمّلون مسؤولية انهيار البلد؟ أم يكتفي بتقديم نفسه ضحية لما يُحاك؟
اذا رفع الاتهام، فهو حتما سيلقى ردا مباشرا وقاسيا من القصر الجمهوري اذا كان اتجاه الأمور هو للتصعيد وتبادل الاتهامات بالمسؤوليات.
من جهة ثانية فان تيار المستقبل حمّل بشكل غير مباشر حزب الله جزءا من مسؤولية اغتيال سليم قائلا في بيانه ان هذا الاغتيال :" في احدى قرى الجنوب جريمة مدانة برسم الدولة والقوى المحلية المعنية بامن القرى الجنوبية" ، ثم ذهب نائب رئيس التاير د.مصطفى علّوش الى اتهام أكثر صراحة بقوله :" من المنطق اتهام حزب الله باغتيال لقمان سليم" .
لكن حتى الساعة، لا يبدو أن الحريري راغبا بأي اتهام سياسي للحزب لأن ذلك سيقطع كل الجسور، والرجل كما الحزب بحاجة الى التعاون في هذه المرحلة لا التنافر.
هل يردّ السيد نصرالله على الاتهامات في خطابه، فبيان الاستنكار الذي وزّعه حزب الله بعد هذه الجريمة، لم يوقف كرة ثلج الاتهام التي شابهت تلك التي قيلت بعيد اغتيال الحريري، والذي لمفارقات التاريخ وعجائبه جرى في شهر شباط نفسه عام 2005. قد يرد على موجة الاتهام لتصويب الأمور وشرحها خصوصا ان السفيرة الاميركية تعمّدت الدخول الى الضاحية قبل أيام للمشاركة في التشييع، او يتجاهل الأمر.
لكن كيف سيرد السيد نصرالله على المشكلة الأهم حاليا في الوطن، أي عقم تأليف الحكومة؟ هل سيدافع عن الرئيس عون وتياره، على اعتبار انه ليس المسؤول الوحيد عن هذا التعطيل وان خصومه الكثيرين في الداخل والخارج يعيقون ذلك؟ من هم تحديدا هؤلاء الخصوم؟ فهذه بحد ذاتها مشكلة لحزب الله. هو حتما سيدافع عن عون، لكنه ليس راغبا بتحميل الحريري المسؤولية.
ثم لا شك ان توقيت خطاب نصرالله بعد يومين على خطاب الحريري، سيعطيه هامشا واسعا، لرفع مستوى حماية العهد، أو للحديث الهاديء عن التسويات المطلوبة. فكلام الحريري سيُحدد جزءا أساسيا من رد أمين عام الحزب.
سيتحدّد ذلك أيضا وفق قراءة الحزب الاستراتيجية لنتائج جولة الحريري الى الخارج، في ظل التطورات التي أحدثها تولي الرئيس جو بايدن الرئاسة وما تلاها من بيان فرنسي أميركي حول لبنان، فنائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي كشف ان الاتصالات بين حزبه وفرنسا لم تنقطع، حذّر ضمنيا من أي تحيّز فرنسي لطرف ضد آخر.
فصل الخطاب:
على أهمية كل ما سيقوله الرئس الحريري الأحد، والسيد نصرالله الثلثاء واللذان سيعكسان طبيعة موازين القوى المقبلة، فان اللبنانيين ينتظرون في الواقع التالي :
·هم يريدون أملا ابتعد حتى ما عاد يُرى لا بالعين المجردة ولا حتى بالمجهر.
·هم يئسوا من الخلافات السياسية ومن الصراع العوني الحريري الذي يخفي وراءه صراعات أوسع محليا واقليما ودولية.
·المؤيديون سيصفقون لهذا الخطاب وذاك الخلاف ، بسبب الموروث العاطفي والانتماء المذهبي والايديولوجي والسياسي، لكنهم حتما، يتشاركون جميعا في الهم والبؤس والفقر والمرض والقلق على مصيرهم ومستقبل أولادهم وعلى بقاء الوطن برمّته.
·ما عاد اللبنانيون يريدون سماع الاتهامات والتبريرات. هم فقدوا الايمان بالسياسة والسياسيين. ويريدون حلولا تُقال وتُنفّذ.
·لا يهم المواطن العادي أكان الوزير شيعيا او سنيا او مسيحيا او درزيا أو أرمنيا، هم يريدون وزيرا يؤمن قوت يومهم بكرامة، والحد الأدنى من طبابتهم بكرامة، ويعيد اليهم شقاء العمر الذي صار دولارت معتقلة في المصارف. هم يريدون شيئا من تعليمهم وكهربائهم ومائهم وهواتفهم والانترنيت بثمن معقول.
·لم يعتد لبنان على اسرائيل، وانما هي اعتدت وجارت وقتلت وما تزال تخترق سماء الوطن كل يوم ، فكان طبيعيا أن يثور ابناء الأرض الطبية من الجنوب حتى البقاع ويطردوها، ومن الطبيعي أن يبقى لبنان قويا لصد اختراقات اسرائيل اليومية . لا أحد عنده ذرة كرامة يناقش في هذا الأمر خصوصا ان جزءا من لبنان ما زال محتلا والوطن يخوض مفاوضات قاسية لاسترداد ثروات بحره وبره، لكن في لبنان مَن كبُرت في داخله رغبة التطبيع بسبب اليأس من الأوضاع. هذه ستكون كارثة على الحزب والمقاومة لو توسّعت وصار لها دعاتها ومؤسساتها واعلامها وشعبيتها. كلما تأخرت الحلول ستزداد هذه الدعوات التي تتغذى بمناخ اقليمي ودولي معروف.
·لا يوجد لبناني عنده ذرة ضمير يكره الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أنعش آمالا تنموية ونهضوية عريضة، حتى ولو أن البعض عارض خططهه واتهمه بالتأسيس لانهيار الليرة وبناء اقتصاد وهمي. لكن تركة الرئيس الشهيد تضيع، وكثيرا ممن سيستمعون الى خطاب سعد الحريري غدا، ما عادوا مقتنعين بجدوى الكلام ما لم يتبعه مشروع واضح وآلية للتنفيذ. غير ذلك سيكون كارثة على تيار المستقبل والحريري نفسه وعلى وراثة الرجل الذي كاد يُصبح أهم زعيم سُني في المنطقة.
·الناس جاعوا وضاعوا، هم يريدون أملا، يحتاجون الى من يربّت على أكتافهم، لا الى جيوش الكترونية تثور ضدهم كلما اعترضوا.
·الأوضاع الاقليمية والدولية ما تزال شديدة الغموض، لا أحد غير الله يعرف كيف ستتطور. سقط لبنان مرارا بأوهام التطورات الخارجية. كثيرٌ من الذين راهنوا على تلك المتغيرات، خسروا وساهموا بخسارة لبنان وانتهاء وظائفه وافقار شعبه وايقاظ الفتن النائمة.
·الناس في لبنان يريدون من يقول لهم : هذا مشروعي للحل، وهذا برنامج التنفيذ، فيمسح دمعة امل ثكلى، ويزيل همَّ اب مهجوس بتأمين قوت أولاده، وعذابَ مريض يحتضر على ابواب المستشفيات، وقلقَ موظف يعرف أن أمامه أشهر قليلة فقط قبل أن يضم الى قوافل العاطلين عن العمل في بلد تخطى فقره عتبة الستين بالمئة.
أيها السيد والرئيس، حبّذا لو تجتمعان، وتذهبان مع رئيس مجلس النواب نبيه بري لعند رئيس الجمهورية، فتُعلنوا جميعا من هناك بداية حل لبناني داخلي بمشروع واضح وبرنامج تنفيذ واضح. أقفلوا الأبواب على كل الخارج، مهما كانت نوايا ذاك الخارج صافية او مشبوهة، وقدّموا للناس مشروعا من انتاجٍ لبناني لحل معقول ومقبول.
ثمة فرصة محلية واقليمية ودولية قائمة الآن، للتوافق، لو ضاعت، فان البلد الذي ضاع اقتصاديا وماليا، سيغرق بأتون الشوارع ومشاكل الأمن التي تخدم الجميع الا لبنان.
سامي كليب مؤسس ورئيس تحرير موقع خمس نجوم السياسي الفكري الثقافي