يعيش اللبنانيون في قلب الخوف. يشعرون أنهم يقتربون من حافة هاوية سحيقة تتهدد وحدتهم، بل ربما وجود دولتهم، بمخاطر مصيرية.
وصحيح أن الخوف يشكل القاسم المشترك الأعظم بين شعوب هذا المشرق العربي التي انتفضت مؤخراً ضد أنظمتها الدكتاتورية ثم افتقدت القيادات المؤهلة لأن تتقدم بها نحو غدها الأفضل.. لكن الخوف اللبناني أقسى وأشد إذ أنه يكشف ضعف الدولة وعجزها عن القرار، كما يفضح تواطؤ الطبقة السياسية على وحدة الشعب وحقوقه، مما يكاد يلغي دور الدولة ويعطل مؤسساتها وفي الطليعة منها الجيش.
سقطت مظلة الأمان التي شكلها لفترة طويلة الجار القريب، سوريا. بل إن سوريا التي تعيش محنة قاسية تكاد تلتهم وحدتها وأسباب قدرتها باتت الآن مصدراً أساسياً للقلق، خصوصاً في ظل الحرب المفتوحة بين نظامها الذي كان يتبدى جباراً وغير قابل للخرق وبين معارضاته التي يتداخل في تشكيلاتها المحلي والوافد، المطالب بالديموقراطية والمطالب بالخلافة والقائل بحكم الشعب والقائل بحكم الشريعة إلخ.. في الداخل بتلاوينه العديدة والخارج بأهدافه المتباينة.
الكل في لبنان يخاف من الكل. كل طائفة تخاف الطائفة الأخرى وتخيفها. والجيش خائف على الجميع ومن الجميع طالما تهددت حصانته الوطنية بالطاعون الطائفي.
حتى الانتخابات النيابية باتت مصدراً للخوف بعدما وظفتها الطبقة السياسية لحسابها واتخذتها منصة لحروبها باسم الطوائف. كيف يمكنك اعتبار قانون انتخابي موسوم بالطائفية مصدراً للديموقراطية بما هي التجسيد الفعلي للإرادة الشعبية.
المدن التي كانت آمنة وجامعة وحاضنة لأهلها جميعاً، وبمعزل عن طوائفهم ومذاهبهم، تقدم صورة مصغرة لمشروع الوطن، باتت كل منها أرخبيلاً من الأحياء يشل حركتها خوف أهالي كل حي من «إخوته» في الحي الآخر.
…
مع كل صباح يحاول المواطن أن يهدئ مخاوفه عند انطلاقه إلى عمله، ينتظر «الأخبار العاجلة» ليعرف أي طريق يسلك، ولكنه يظل تائهاً عن الطريق إلى حقوقه في دولته وعليها؟
من قبل، كانت دمشق مصدراً للطمأنينة، وكانت القاهرة مصدراً للثقة بالغد، وأقطار الخليج احتياطياً استراتيجياً للأمان الاقتصادي، وبغداد عنواناً للمنعة.. أما اليوم فكل العواصم من حوله خائفة ومخيفة في آن.
مناخ الحروب الأهلية يخيم على المنطقة جميعاً، وريح السموم تهب عاتية، و«الكيانية» التي كانت اختصاصاً لبنانياً باتت تضرب المشرق جميعاً، والطائفية أنجبت المذهبية، والغيوم السوداء المنذرة بالعواصف تغطي سماء الغد.
من قبل كانت «الكيانية» اختصاصاً لبنانياً، ومصدراً للفرادة. اليوم ترتفع الشعارات الكيانية في معظم أرجاء المنطقة.
و«الكيان» نقيض الوطن. الوطن لأهله جميعاً. والكيان لطائفة أو مذهب بالذات، لا يقبل الشراكة. وفي عقيدة الكيان أنه المركز وإلى جانبه أطراف أو تفاصيل، ليست من جوهره وليست في أساس وجوده. لا يهم أن تسقط الأطراف طالما بقي المركز، فأصحاب المصلحة في وجوده ـ وهم الأقوى والأعظم نفوذاً ـ سيعيدون الأطراف إليه وبشروطه. لا يهم أن يسقط البقاع سهواً، لا يهم أن يضيع الشمال طريقه إلى العاصمة، لا يهم أن يتوارى الجنوب بعيداً عن الذاكرة… بل ولا يهم أن تهمش بيروت بالتقسيمات الواقعية.. المهم أن يبقى الكيان هو المركز، ولكي يبقى فشرطه أن يكون له القرار. الكيان هو الأصل: الانتخابات بشروطه أو لا تكون، والشروط تحول الوطن الصغير إلى كانتونات متباعدة وإن ظلت بمجملها أفضل بيئة حاضنة لمشروع الحرب الأهلية المقبلة.
كيف لا يخاف اللبنانيون والحرب الأهلية تتربص بهم في الداخل، فإن تأخرت جاءت رياح المحيط تستعجلها وتغذيها وتأخذ منها وتعطيها، فإذا المشرق العربي جميعاً مسرح لمصادمات طائفية ومذهبية تدمر المدن وتسمم علاقات الأخوة وتهدم الدول وتفتح الأبواب للتدخل الأجنبي وتمنح العدو الإسرائيلي موسم أعياد لا تنتهي.
هل انتهى زمن سايكس ـ بيكو؟
هل نحن في طريق العودة إلى المتصرفية ودويلات الطوائف في الجوار، بما يمكن للمشروع الصهيوني ويجعل من إسرائيل الدولة الوحيدة في هذا المشرق الذي كان عربياً والذي يقاتل عروبته الجميع، من الداخل وفي الخارج؟
وحدها الطبقة السياسية تستثمر الخوف وتحوله إلى «أسباب موجبة» لإطالة زمن تزعمها وإدامة قيادتها للجماهير المغلوبة على أمرها.
… خصوصاً أنها تفصل القوانين الانتخابية، كائنة ما كانت تسمياتها، على مقاساتها، جهوياً، فإن تعذر فطائفياً، فإن تعذر فمذهبياً.. فيصير الشعب الواحد أمما شتى…
أما بالنسبة لما يدبر للمنطقة بشعوبها والدول فأمر يتجاوز قدراتها، ولذا تكتفي بالتصريحات المدروسة والمناسبة، حتى لا تخسر مستقبلها، كائناً من كان صاحب الأمر في مقبل الأيام.
طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير