“بربك، حط كم رأس، ومقاطع لارجل وايدي، وكمان ركز على الاحشاء” عبارة تخيل اين يمكن ان تسمعها، خارج دكان الجزار. لا تتعب نفسك بالتفكير، فقط افتح اقرب قناة اخبارية، لتعرف ان هذا جزء من حوار يومي بين مدير تحرير، ومحرر في قناة فضائية، يتكرر في صحيفة مجاورة، او موقع اخباري، وحتى في القناة الاخبارية المنافسة.
عزيزي المشاهد، كل المحاور الاعلامية “العربية” مسخرة لخدمتك، ومشغولة بنقل اخر وقائع وفضائع الحرب. بربك، كيف ستصدق ايها المشاهد الكريم، انك محاصر بالحرب، طالما لم تر بأم عينك بقايا الضحايا. وكيف ستعرف ان العدو شرس وقلبه قاس، ونحن لم نعرضلك اشلاء الاطفال. فهل نضمن تعاطفك، اذا لم تر هذه الصور يوميا.. بل لحظيا.. قل لي بربك.. كيف؟
كيف سيحارب اعلام اليوم، “داعش” والقاعدة ومليشيا الحوثي، طالما لا يبث مشاهد مؤلمة، لاطفال فقدت اطرافهم، واحشاء خرجت من مكانها، وبقايا دماغ متناثرة على الرصيف، كيف ستصدق اننا نتحدث عن مجرمين وانت لم تشاهد رجلا انفصلت ساقه عن جسده وهو يتلوى في الارض.
وكيف ستتأكد مشاهدنا العزيز، ان العدوان السعودي على اليمن غاشم ويقتل المدنيين، طالما لم ننقل لك صور جثث النساء يحتضن جثث اطفالهن الرضع تحت الانقاض، كيف ستصدق ظلم الحرب والمها، دون رؤية اطفال ناموا بموتهم، بربك قل لي كيف.
امامك اعلام بقلب كبير، وعقل اكبر، اعلام مع اشلاء الانسان اينما كان، اعلام لن يتأكد انه نقل اليك الصورة كاملة، طالما هناك جزء حيوي في جسد الانسان لم يظهر على الشاشة بعد. اما “داعش” فلن يتأكد انه حاربها دون ان ينقل اليك مقاطع قطع الرؤس والحرق، وفي حال عدم حصوله عليها “من قبل داعش طبعا” سوف يساوره الشك من وصول الرسالة، وما عليك سوى اعادة تفحص المشهد لتتأكد من هذا الاجرام الداعشي.
لكن قسوة الصورة، تظهر فقط حين يتعلق الامر بالدم واللحم العربي، فالضحايا الاجانب، نسمع بهم فقط، ويضج العالم بهم، ويتعاطف معهم، وهو لم يراهم. ان دمهم محرم على المشاهد، موتهم له قدسية، رفاتهم لها قيمة.
فاين هم ضحايا الفندق التونسي، وقبله صحافيي شارلي ايبدو، والامريكان الذي ازهقت ارواحهم في العراق، وقبلهم جميعا الالاف الذين سقطوا في برجي التجارة العالمي، وغيروا خارطة العالم منذ 11 سبتمر.
كل ما عرض علينا فردة حذاء، وباقة ورد في يد شابة صهباء، ولعبة طفل، وصور رجل عجوز، ورغم ذلك تعاطفنا، وعبرنا عن ألمنا وندمنا، ولم نكن نحتاج ان تكون الصورة قاسية، لنتأكد ان الارهاب لا قلب له.
تونس والكويت
والحمد لله، تأكدنا بما لا يدع مجال للشك، ان دمنا لاقيمة له، ولحمنا المبعثر على الشاشات، ليس سوى بضاعة سياسية رائجة، في حرب وقحة. تاكدنا من هذا حين سقط مئة جندي وشاب يمني في احداث تفجير انتحاري في صنعاء في نفس النهار الذي اقتحم فيه الارهاب مقر صحيفة “شارلي ايبدو” في باريس، فتعاطف العالم مع ضحايا الصحيفة، برغم ان صور ضحايا صنعاء كانت تملاء كل اوعية وقناني الاعلام.
تأكدنا حين نشرنا البارحة صور اخوتنا في الكويت، مضجرة بالدماء، ولم نر قطرة دم في الساحل التونسي، لاي سائح بريطاني. لقد قطعنا الشك بالقين ان ما تبقى منا وما بقي من لحمنا، لم يكن الا سلعة غير مكلفة في نظر حكوماتنا ومعارضتها، وانه حين اصبحت مجرد جثة، صار سعره اغلى قليلا.
اذا دقة المشهد، ومصداقيته تتوقف على نوعية جواز سفر الضحية، ولو كان عربيا يحمل جواز سفر اوروبي، فانه محظوظ مثير للحسد، لاننا نضمن له كاعلاميين، ان نحترم قدسية ومهابة الموت، ولا ننتهك خصوصيته، ولا نتجاوز اخلاقيات المهنة.
وبمناسبة هذه الاخيرة، اتذكر من ضمن طرائف “اخلاقيات المهنة” وهي كثيرة، ان قناة ما، قطعت وعدا على نفسها الا تنشر صور الدم، وجرمت اي محرر لديها يقوم بهذا الفعل الشنيع والفضيع. “ضمنيا” طالما الطرف السياسي الذي تدعمه هو من يريق الدم، لكن حين انقلبت الصورة، واصبح معارضي الطرف السياسي الاجرامي اكثر اجرما، وقاموا بقطع الرؤوس واكل الاحشاء وطبخها، كانت القناة اولمن نقل الصورة كما هي.
ان الاعلام ليس الا نافذة نرى فيها انفسنا، ونحن اليوم في جلسة تشريح حقيقية، لم نعد نر انفسنا فقط، بل حتى احشائنا. الاعلام العربي اخرج احشاءه امامنا ، واسهب بتكريس مشهد العنف، واغمض عينه على الاثر النفسي لنشر الصور الدموية. ولحد اليوم، لم يصادف فكرة انه احد مسببي العنف، وانه كسر الحاجز النفسي للدم والقتل والاجرام، لم يخطر في باله انه يعمل مجانا لدى “داعش” وكل الجماعات الارهابية والقتالية والمسلحة، لنشر افكارها، وخدمة اهدافها.
اعلامنا النادر، هو الباب الاول الذي يدخل منه النظام القمعي، والنافذة الاخيرة التي تقفل امام الحقوق الادمية، انه كرسي الانتظار الوحيد في العيادات النفسية. انه بجسارة المحارب، كسرالمعايير العامة لاخلاقيات المهنة ، وقلب المعايير الانسانية، واستخدام كل قطرة دم في الحرب الاعلامية، وتبرع بما تبقى من دم لسفاكيه، وظهر امامنا متبلدا على الشاشة بدون حياء وبدون دم، ليقول بصوت جهوري “نعتذر لقساوة الصورة” ، وبدوري كإعلامية اعتذر لقساوة العبارات التي وردت في هذا المقال.
منى صفوان: كاتبة يمنية