يعيش اللبنانيون اليوم ظروفاً صعبة لم يشهد وطنهم مزيجها في السابق. فلبنان اليوم، خاصّةً بعد انفجار مرفأ بيروت، يعاني من انحدار كبير في عموم الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصحّية، ومن غياب لمشروع إنقاذ وطني يتّفق عليه أصحاب القدرة على القرار في داخل لبنان وخارجه.
ويُخطئ من يظنَّ أنّ الأزمات اللبنانية تنتهي باتّفاق اللبنانيين فيما بينهم فقط. ويخطئ من يظنّ اليوم أنّ “المستقبل اللبناني” سيتحقّق بإرادة لبنانية فقط.
فأزمات لبنان كلّها هي دائماً نتيجة خليط من عوامل مركّبة داخلية وخارجية تتحرّك معاً لتصنع أتون الحروب والصراعات المسلّحة أحياناً، والتسويات السياسية أحياناً أخرى. هكذا هو التاريخ اللبناني المعاصر منذ كان لبنان هو فقط “منطقة جبل لبنان” أيام حكم “المتصرّفية” في أواخر القرن التاسع عشر، وحيث جرت حرب الطائفتين المارونية والدرزية عام 1860 بتشجيع وتسليح أجنبي فرنسي وبريطاني!.
ثمّ هكذا كان الحال عام 1958 حينما شهد لبنان أحداثاً دموية كانت هي أيضاً مزيجاً من عناصر أزمة سياسية داخلية في فترة حكم الرئيس كميل شمعون، مع تحريك وتأثير خارجي نتج عن إعلان مشروع حلف أيزنهاور والصراع الأميركي مع مصر عبد الناصر، وانتهت الأزمة بتفاهم مصري/أميركي على تولّي اللواء فؤاد شهاب حكم لبنان!.
وجاءت حرب نيسان/أبريل 1975 لتؤكّد من جديد هذه الخلاصة عن تاريخ الأزمات اللبنانية، حيث امتزج الصراع الداخلي بأسبابه السياسية والاجتماعية مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحديداً حول الموقف الإقليمي والدولي من الصراع العربي/الإسرائيلي ومن الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان.
فلقد حصلت الحرب في لبنان عام 1975، والمنطقة كلّها تشهد تفاعلات وتحوّلات كبيرة:
– حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 وما تبعها من سياسات قادها هنري كيسنجر مع أنور السادات لفصل الجبهات العربية عن بعضها البعض.
– بروز المقاومة الفلسطينية المسلّحة واستخدامها للحدود اللبنانية مع إسرائيل كساحة لعملياتها العسكرية بعدما أغلقت أمامها الجبهات الأخرى، خاصّةً الجبهة الأردنية بفعل أحداث أيلول/سبتمبر عام 1970.
– سعي سوريا لحماية نفسها ولتعزيز دورها الإقليمي بعدما انفرط عقد التحالف مع مصر/السادات، وبعدما انهارت مقوّمات التضامن العربي الذي صنع حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973.
– طموحات بعض الأنظمة العربية لوراثة دور مصر/عبد الناصر من خلال تمويل وتسليح عدد من المنظّمات الفلسطينية واللبنانية بأمل أن يحدث ذلك تأثيراً على عموم المنطقة العربية.
– الصراع الأميركي/السوفييتي على المنطقة، خاصّةً في ظلِّ العلاقات المميّزة التي كانت قائمة بين موسكو ودمشق إضافةً إلى عدد من المنظّمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية.
– أخيراً، وهو العامل الأهم، المشروع الإسرائيلي لتحطيم النموذج اللبناني، الذي تحدّث عنه أمام الأمم المتحدة عام 1974 رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية، لحلّ القضية الفلسطينية من خلال دولة فلسطينية ديمقراطية تضمّ اليهود والمسلمين والمسيحيين كما هو النموذج اللبناني القائم على تعدّد الطوائف.
وقد استطاعت إسرائيل في احتلالها المباشر أوّل مرّة عام 1978 لمناطق لبنانية عديدة، ثمّ في احتلالها وغزوها لمناطق أخرى وللعاصمة بيروت عام 1982، أن تكون هي أكثر العوامل تأثيراً في الحرب الأهلية اللبنانية وفي انعكاساتها الفلسطينية والسورية والعربية عموماً.
وامتزجت في مخطّطات إسرائيل بلبنان مشاريعها لتقسيمه مع احتلالها للأرض ولهدف السيطرة على المياه، ومع السعي للقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلّحة، فضلاً عن إضعاف وإنهاك سوريا وإشغالها في صراعات عربية/عربية، بينما خطوات التسوية والمعاهدات كانت تجري على جبهات عربية أخرى.
ومن المهمّ جداً أن يتذكّر اللبنانيون ما حدث في ليلة 28/12/1968 من غارة إسرائيلية على مطار بيروت وتدمير عناصر الكوماندوس الإسرائيلي لثلاث عشرة طائرة لبنانية كانت جاثمة على أرض المطار، وهي كانت معظم ما تملكه الشركة اللبنانية MEA، بهدف ضرب الاقتصاد اللبناني الناجح الذي كان قائماً في حقبة الستّينات، خاصّةً أنّ لبنان لم يكن طرفاً في حرب العام 1967، وقد حدثت الغارة الإسرائيلية قبل انتشار المنظّمات الفلسطينية المسلّحة على الأراضي اللبنانية.
وإذا كان الصراع العربي/الإسرائيلي هو العامل الأوّل المفجّر للحرب اللبنانية في العام 1975، فإنّ إسرائيل لم تكن دائماً في موقع الرابح بمعاركها العسكرية والسياسية في لبنان. فصحيحٌ أنّ إسرائيل حقّقت أهدافاً كثيرة في محطّات الحرب اللبنانية، واستطاعت الوصول بغزوها العسكري عام 1982 إلى أوّل عاصمة عربية، لكن أيضاً كان لبنان أوّل بلد عربي يُجبر إسرائيل على الانسحاب عام 2000 بفضل المقاومة، لا حصيلة مفاوضات ومعاهدات.
وصحيحٌ أنّ إسرائيل دعمت أطرافاً لبنانية في الحرب وساهمت بإشعال معارك طائفية عديدة، لكنّها فشلت في تجزئة الوطن اللبناني، رغم إنشائها لدويلة “لبنان الحر” بزعامة الرائد سعد حداد في العام 1979، حيث جرى “اتفاق الطائف” في العام 1989 بتفاهمات سورية/سعودية/أميركية كمدخلٍ جيّدٍ لإنهاء الحرب اللبنانية، إلا أنّ هذا المدخل الجيّد لم يستتبعه بناء “وطن لبناني جيّد” على أسس متينة، إضافةً لبقاء الاحتلال الإسرائيلي لقسمٍ كبير من جنوب لبنان وبقاعه. فلو ضغطت واشنطن على إسرائيل لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 425 والانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية، بشكلٍ متزامن مع انسحاب القوات السورية منه خلال سنتين من توقيع “الطائف”، هل كانت ستوجد مشكلة “سلاح المقاومة”؟!.
أيضاً، استمرّ “الوطن اللبناني الواحد” مهدّداً بالانهيار لأنّ “اتفاق الطائف” كان يجب أن يؤدّي إلى إلغاء الطائفية السياسية مع الحفاظ على لبنان كبلد قائم على تعدّد الطوائف، حيث المطلوب ليس إلغاء أيّ طائفة أو مذهب بل إلغاء الطائفية السياسية والمذهبية السياسية، فكلاهما يؤدّيان إلى حروب الطوائف والمذاهب وإلى استغلال الخارج لصراعات الداخل.
ونجد، بعد أكثر من ثلاثين سنة على “اتفاق الطائف” أنّ العامل الداخلي اللبناني ما زال مهترئاً وهو موضع استغلال خارجي من كل حدبٍ وصوب. وبأنّ الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بعد “اتفاق الطائف” كرّست فيه مصطلح “المزارع الطائفية والمذهبية”، لا مفهوم المواطنة السليمة. لكن إذا كان قرار “اللاسلم” في لبنان هو من مسؤولية الخارج الإقليمي والدولي، فإنّ “اللاحرب” هو قرار يخضع فقط لمدى قدرة اللبنانيين على فكّ المزيج المركّب لأزماتهم المتكرّرة، وجعل السلم الأهلي اللبناني مسألة غير خاضعة لا للنقاش المحلّي ولا للتوظيف الخارجي.
لقد اقتسم الحاكمون في لبنان منذ عام 1990 الحكم ومنافعه، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثّلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية وثقافية فئوية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في “الآخر” اللبناني، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى ترميم البناء السياسي بعد كل أزمة، والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.
حبّذا لو أنّ الشباب اللبناني يتحرّك للمطالبة بحرّيته من زعامات سياسية طائفية موروثة، بعضها يورث أبناءه العمل السياسي وهو ما زال على قيد الحياة السياسية!. حبّذا لو أنّ الجيل اللبناني الجديد يطالب بسيادته على القرار السياسي اللبناني المتعلّق بمستقبله ومستقبل وطنه، وذلك من خلال بناء مجتمع لبناني جديد لا طائفي، يكون خميرتَه جيلٌ جديدٌ متحرّرٌ من الإرث السياسي التقليدي القابض على لبنان لعقودٍ طويلة.
تُرى، لماذا تُمارَس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال التوريث السياسي القائم على الحصص الطائفية والمذهبية؟ ثمّ لماذا “تنتقل البندقية من كتفٍ إلى كتف” على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز عنده تغيير النظام السياسي الطائفي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعةً لا وطناً؟ ويحوّل الناس من شعبٍ إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟! أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي يسهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعليّة التأثيرات السّلبيّة الخارجيّة، وبذلك أيضاً ينتقل لبنان من حال المزرعة والقطيع إلى لبنان الوطن والمواطنة.
ما يحدث في لبنان منذ العام 1975 هو أكبر من لبنان نفسه. فأطراف إقليمية ودولية عديدة وظّفت، طوال العقود الماضية، أرض لبنان وصراعاته المحلّية من أجل مشاريعها الخاصة و”حروبها المفتوحة”، لكنّ ذلك ما كان ليحدث لولا تعامل اللبنانيين (كما الأطراف الإقليمية والدولية) مع لبنان بأنّه “ساحة صراع” وليس وطناً واحداً لكلّ أبنائه.
ورغم شغف اللبنانيين بمتابعة التطورات الدولية، وبقدرتهم المتميّزة على التحليل السياسي الذي يربط أصغر قضية محلّية بأبعاد دولية كبرى، فإنّ أفعال وسلوك معظمهم لا يخرج عن الدائرة الضيّقة للطائفة أو المذهب أو المنطقة. وهم “يكونون كما يُولّى عليهم”، و”يُولّى عليهم كما يكونون”.. فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في العقلية الضيّقة التي تتحدّث عن “العولمة” من جهة، وتتصرّف بوحي من مصالح الحي والشارع و”الزاروب” من جهةٍ أخرى!
طبعاً، هو سؤالٌ لبنانيٌّ مشروع عن مستقبل سلاح المقاومة وعن ضرورة حصر العناصر المسلحة بالمؤسّسات الرسمية فقط، لكن هذا الأمر أصبح، كما القضايا اللبنانية الأخرى، مادّة في صراع إقليمي/دولي ومشاريع سياسية للمنطقة، عوضاً عن اعتباره مسألة وطنية عامّة اشترك كلّ لبنان في تحمّل تبعاتها خلال فترة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي قضية مرتبطة حتماً بتوفّر سياسة دفاعية لبنانية تضمن ردع أي عدوان إسرائيلي، وهو أمرٌ لم يحصل بعد.
وهاهو لبنان الآن يعيش مزيجاً من تأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه في العام 1920 على أيدي المحتل الفرنسي الجنرال غورو، وكيفية بناء نظامه الطائفي في مرحلة “الانتداب الفرنسي” ثمّ بعد حصول لبنان على استقلاله في العام 1943، كلّها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تماماً كما هو أيضاً دور موقع لبنان الجغرافي حيث الخيار هو فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي سبّب أصلاً حدوث مشكلة مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين بعد حربي 1948 و1967، وكما هو أيضاً هذا الوجود مصدر خطر مستمرّ على كيان لبنان ودوره، وعلى وحدة أرضه وشعبه، بغضّ النظر عن طبيعة الحاكمين والمعارضين في لبنان.
وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير موقعهم الجغرافي وتأثيراته وانعكاسات صراعاته على أوضاع وطنهم، فإنّ بإمكانهم حتماً تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي. وعندما يفعل اللبنانيون ذلك يصونون وطنهم من الوقوع في شرك الأزمات الداخلية وتوظيفها الخارجي من جديد!.
د. صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]