اليمين أو القسم عهد بشري مؤكد يربطه الحالف بشرفه ويوثقه بذكر اسم عزيز عليه لإثبات صحة واقعة ما أو بالإلتزام بالتصرف مستقبلا وفق سلوك معين. وتعتبر أغلب المجتمعات عدم مراعاة القسم والحنث فيه معرة وشؤما على الحانث مما جعل البعض يعزف عن اليمين مطلقا ولو كلفه ذلك التنازل عن حقوقه متى لزمت دونها الأيمان. والغالب في الشخص السوي البر بقسمه وعدم انتهاك يمينه. ويعتبر المجتمع الكذب وعدم مراعاة القسم من طرف شخص ما مؤشرا على عدم الإلتزام ومدعاة لنزع الثقة. وبينما يعتقد الناس صدق البعض بمجرد القول، دون يمين، لا يركنون إلى التزام من عرف بنقض العهد مهما قطع على نفسه من مواثيق.
ويحلف أغلب الموريتانيين بالله وبه يقسم متقلدو بعض الوظائف قبل مباشرة مهامهم بينما يحلف البعض بجامع الأيمان وبالحرام والحلال و"الأشدية" و ب"سرة" أمه وأبيه أو بشخص عزيز عليه.. وقد رأيت من يحلف بالخبز فيرفع يده به قائلا بحق هذا الرزق.. ولعل من أشهر الأيمان في المجتمع الموريتاني يمين "فنيدة" (تصغير فندة من بنات الفند وهو لغة الكذب) ويعدها المجتمع أيمان عبث يتخذها مضربا للمثل في الأيمان الكاذبة.
وتعد اليمين وسيلة من وسائل إثبات الحقوق والوقائع أمام القضاء، فإذا تعذرت البينة أو نقصت فإن القاضي قد يعتمد اليمين ويحكم بناء عليها وربما نكل أحد الطرفين عنها لتتوجه إلى خصمه طبق ضوابط شرعية محددة.
ويعتبر قسم رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية من أشهر الأيمان لأن يمينه تنعقد بناء على دستور الجمهورية وتأذن بمباشرته لمهامه والتزاماته السامية ولا تقتصر متابعتها على المواطنين وإنما تلفت انتباه الأجانب بعد أن جلبت فرادتها في حد مأموريات رئيس الجمهورية الإنتباه.
ونظرا لما يتردد عن محاولة البعض حمل السيد محمد ولد عبد العزيز على نقض قسمه ارتأيت أن أجعل من يمين رئيس الجمهورية موضوعا لهذه المعالجة. وسأجتهد للتقيد بيميني بالكف عن نشر ما يخالف القانون وقواعد الأخلاق الحميدة وبعدم الإبتعاد عن الإحترام الواجب للسلطات.
1.
في يوم السبت 02 أغشت 2014، وفي ساحة الملعب الأولمبي بانواكشوط، تقدم السيد محمد ولد عبد العزيز ونطق قائلا:
"أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي وظائفي بإخلاص على الوجه الأكمل وأن أزاولها مع مراعاة أحكام الدستور وقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية وعلى أن أسهر على مصلحة الشعب الموريتاني وان أحافظ على استقلال البلاد وسيادتها وعلى وحدة الوطن وحوزته الترابية.
وأقسم بالله العلي العظيم أن لا أقوم أو أدعم بشكل مباشر أو غير مباشر أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
تم ذلك أمام المجلس الدستوري وبحضور جمع غـفـيـر من الموريتانيين والأجانب، وتمت أرشفته بالصوت والصورة على اليوتوب بعناية بلوار ميديا.
وبناء عليه أعلن رئيس المجلس الدستوري، تنصيب السيد محمد ولد عبد العزيز لولاية رئاسية ثانية وأصبح من حق جميع الموريتانيين أن يطمئنوا إلى أن رئيسهم سيلتزم بمقتضى قسمه وأن الفترة ستكون ولايته الأخيرة في الحكم.. وقبل هذا القسم بشهر واحد - وبعد يمينه في مستهل الفترة الرئاسية الأولى الذي أداه يوم 5 أغشت 2009 - سئل السيد محمد ولد عبد العزيز، عما إذا كان سيبرح القصر عند انتهاء مأموريته الثانية والأخيرة فرد قائلا: لقد أقسمت على ذلك.. ووثق التصريح في مقابلة مع قناة Africa 24 بثت بتاريخ 29/06/2014، تمكن متابعتها على الإنترنت: شاهد ابتداء من الدقيقة الخامسة من المقابلة المتاحة على الرابط:
2.
وفي ظل سريان اليمينين، تتردد هذه الأيام، مطالبة البعض لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز بالترشح لمأمورية رئاسية ثالثة.. وفي سبيل ذلك لم يتورع بعض الموريتانيين المتطوعين.. عن المطالبة العلنية بانتهاك الدستور والتقليل من شأنه بالقول إنه "غير مقدس" وأضاف أحدهم، على الهواء، بأن من الممكن تمزيقه.
وإن لم يصدر عن رئيس الجمهورية ما يدل على تبني دعوة "مناوئي الدستور" إلا أن من اللافت أنه لم يصدر عنه قول أو فعل يصنف على أنه ذب عن حمى القانون الأساسي خاصة وأن الرجل هو "حامي الدستور" ولم تتصرف السلطات المختصة في الدولة لردع أصحاب هذه الدعوات التي تستهدف، عن وعي أو غير وعي، تقويض النظام في هذه البلاد. فأي موريتاني يرضى بتمزيق علم بلاده ورمزها الأخضر ذي الهلال والنجمة الذهبيين! .. وهل يعلم هؤلاء أن مكانة العلم مستمدة من المادة الثامنة من الدستور الذي يعتبر مربط كافة قوانين ورموز الجمهورية.
وإذا كان البعض اعتبر أن الرئيس أقر ضمنيا "ملتمسات النكث" عندما بش في مواجهة أحد دعاتها إلا أنني، التماسا لأحسن المخارج، أميل إلى أن الأولى أن تكون ابتسامة الرئيس، التي لم أشاهد، مؤشر شفقة واستخفاف منه بمن يدعونه إلى الحنث.
3.
لقد تابعنا غضبة رئيس الجمهورية عندما اعتبر أن الصحفي أحمدو ولد الوديعة أخل بقانون سيدي ولد النمين في إدارة حوار عابر عقد في باحة القصر الرئاسي بانواكشوط في مساء يوم 26 مارس 2015، لذلك فمن حق المدافعين عن القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية الموريتانية أن ينكروا سكوت رئيسها وغفلة نيابتها العامة عن الدعوات الصريحة بالإعتداء على الدستور والتخفيف العلني من شأنه شأننا. خاصة وأن بعض هذه الدعوات يكيف بأنه جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات الموريتاني في مادته 83 التي تقول بالحرف: "الإعتداء الذي يكون الغرض منه القضاء على النظام الدستوري أو تغييره.. يعاقب عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة وتنفيذ الإعتداء ومحاولة تنفيذه يعتبر في حكم الإعتداء".
4.
ويعاقب القانون الموريتاني الكذب في اليمين حيث تنص المادة 346 من قانون العقوبات على ما يلي: "يعاقب بالحبس من سنة على الأقل إلى خمس سنوات على الأكثر وبغرامة من 5.000 أوقية إلى 100.000 أوقية كل من وجهت إليه اليمين أو ردت عليه في المواد المدنية وحلفها كذبا.
ويمكن بالإضافة إلى ذلك أن يحرم من الحقوق المنصوص عليها في المادة 36 من هذا القانون لمدة خمس سنوات على الأقل إلى عشر سنوات على الأكثر ابتداء من تاريخ انتهاء عقوبته، ويمنع من الإقامة لمدة مساوية".
والعلة في عقاب الكذب في اليمين هي ما يترتب عليه من خلل أخلاقي يهز الثقة بين الناس ويربك معاملاتهم.
5.
إن أداء قسم رئيس الجمهورية فرصة استثنائية وسانحة يتعين أن ينتهزها المجلس الدستوري لإنارة الرئيس وتبصرة كافة المواطنين الموريتانيين بأهمية القسم كعهد بشري يجب احترامه لخطورة انتهاكه من جهة وبأهمية الدستور في وجود الدولة وتوطيد سلطة القانون فيها وسموه ووجوب احترامه.. ويستدعي الحدث الإستثنائي بلاغة خاصة ونظاما يعكس حضارة الأمة وبيانها في كلمات خالدة يتردد صداها في المكان والزمان. وكما قال جان لويس – دبري، رئيس المجلس الدستوري الفرنسي في خطاب له مؤرخ 22 شتنبر 2009:
".. لا ينبغي أن يتساهل في أمر القسم. فكل شخص حارس لقيمه الخاصة.. وباليمين يؤكد علنا الإذعان لهذه القيم وحمايتها. يلتزم أمام نظرائه طبعا وأمام المجتمع برمته."
إننا ننتمي لمجتمع يحترم القيم والمروءة وننهل من معين حضاري يوجب علينا الإبتعاد عن الكذب والبر بالأيمان مجتمع يحفظ قول الخالق سبحانه: "..إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " صدق الله العظيم. ..
6.
وجملة القول أن من واجب الموريتانيين بسلطاتهم وأحزابهم السياسية بكل أطيافها وهيئات مجتمعهم المدني أن يدركوا التردي الذي وصل إليه وعي شعب لا يتورع بعض مواطنيه عن التقليل العلني من شأن الدستور وأن يبادروا بتنظيم حملات لنشر القيم المدنية وترسيخ مفهوم الدولة باعتبار القانون واحترام الدستور.. والخطوة الأولى في سبيل الوعي المدني هي أن يطلق الرئيس حملة لاحترام رموز الدولة لأن "الرعية على قلبه" وأن يعرب عن وجوب احترام الدستور والعزم على محاسبة أي دعاية تناوئه وأن يؤكد للعوام بأن رئيس الجمهورية، أيا كان، لا يمكن أن يكون خصما للدستور.