أَهِيَ محض صُدفة؟ أم إنها مواعيد التاريخ التي لا تُخلفُ و لا تَتَخَلَّفُ؟
ففي مثل هذا اليوم من عام 1959، أي منذ 61 سنة تماما و كمالا صدر القانون رقم 059-59 بتاريخ 10 يوليو 1959 القاضي بإنشاء محكمة العدل السامية، فكان بذلك أحد بواكير الترسانة القانونية للدولة الموريتانية التي كانت تضع حينها أولى خطواته على طريق الوجود.
لم يكن هناك رئيس جمهورية حينها ليُحَاسبَ، ولم يكن هناك برلمان كما عليه الحال اليوم ليُحَاسِبهُ.
لقد جرت مياه كثيرة تحت جسور الدولة الموريتانية، بل و سالت أموال و تدفقت موارد ضخمة في شرايين الدولة كان من الممكن، بل كان من الواجب، أن تضع موريتانيا في مصاف الدول المكتفية إن لم تكن دولة مانحة مزدهرة تُشد إليها الرحال و تهفو إليها الأفئدة.
لم يكن هنالك-و هذا بيت القصيد- فساد و لا مفسدون بالمعنى المتعارف عليه اليوم، مما يبرهن لكل ذي بصيرة على أن محكمة العدل السامية هي جزء لا يتجزأ من قضاء أية دولة تُقَنِّنُ و تُنظم مجالها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي دون استهداف لشخص أو جماعة أو نظام معين.
والمتبادر إلى الذهن هنا هو أن محكمة العدل السامية إنما أنشئت أصلا لتنظم الطريقة التي يحاكم بها الرؤساء الممارسون و أما مجال محاسبة الرؤساء عن الجرائم المرتكبة أثناء أو بمناسبة، أو بعد خروجهم من الرئاسة، فهو القانون العادي لا سواه.
فلا يمكن لذي نظر أن يستنتج من مقتضيات قانون المحكمة السامية للعدل أن الرؤساء لا يحاسبون عن أفعالهم إلا ما داموا في مهامهم، لأن ذلك ببساطة يكرس فكرة منافية لفكرة عدم الإفلات من العقاب التي تطال كل شخص رئيسا أو مرؤوسا، موظفا ساميا، أو مجرد عامل بسيط؛ بل و يجعل كل من يتقلد منصب رئيس الجمهورية يطلق يده في أموال و مقدرات شعبه حتى إذا غادر منصبه نجا بكل ما حاز و اغتصب!
أقول قولي هذا وقد راجعت مسودة القانون النظامي المنشئ لمحكمة العدل السامية ففهمت منه-و ربما كان فهمي قاصرا-أن فكرة مساءلة الرئيس، أي رئيس، إنما أريد لها أن تدور حول مفهوم الخيانة العظمى، وأن لا مجال لمساءلته عن أمور لا يمكن تكييفها كخيانة عظمى.
هذا الافتراض، إن صح، فإنه ينسف فكرة عدم الإفلات من العقاب من أساسها؛ بل و يجعل من اللغط المثار حاليا حول محاكمة الرئيس السابق أمام محكمة العدل السامية التي هي في طور التشكيل مجرد فقاعة سياسوية فارغة.
و تراودنى فكرة ربما يتقاسمها معي بعضكم ألا وهي أن الدوران حول فكرة الخيانة العظمى و رميها هكذا في غير موضع، في صلب المادة الأولى في المسودة التي بحوزتي، ناتج عن تعاطف لاشعوري مع أي رئيس ممارس و رفعه إلى مصاف العصمة و عدم القدرة على معاتبته أحرى التفكير في محاسبته، فما بالك بقبول نسبة أفعال مخلة بالواجب لشخصه وهو الآمر الناهي: طمعا في قربه، أو تواطؤا، أو خوفا من بطشه، أو هي كلها معا، و أن ما يقام به الآن ليس سوى لعب في الوقت الضائع.
لا أحد يشك في تراث الفساد الذي خلفه تسيير العشرية المستعصية على الأفول، و لا أحد يقبل أن يفلت أي مسؤولٍ، أمسِ أو اليوم أوغدا، من المحاسبة، و إن لم يُدِنْ عشرية الضياع إلا ما انخرم فيها من هيبة الدولة، و ما استبيح فيها من أعراض، و ما نهب من ممتلكات عمومية، و شرائيحية و عنف لفظي لكفاها.
و أمل الموريتانيين كبير في أن تراث الفساد ستطوى سجلاته بالحق و القانون بأن تستخلص كل أوقية أخذت بغير حق، و أية حبة رمل حيزت بغير موجب، و أي شراكة أبرمت في الظلام.
و لله الأمر من قبل و من بعد.