التاريخ يعيد نفسه في دنيانا، حتى لكأن “الوطن العربي”، او ما كان يدعى بهذه التسمية حتى الآن، قد “تبخر”، وهانت على شعبه كرامته، فتفرقت صفوفه وهو الذي كان يطمح إلى الوحدة والتحرير، ليعود إلى احضان المستعمرين الجدد: الولايات المتحدة الاميركية وكيان العدو الاسرائيلي.. ومعهما، الآن تركيا السلطان اردوغان!
لبنان: غارق في ازمته السياسية ذات الابعاد الاقتصادية المنهكة، فالدولار يستنزف دخل المواطن ويغرقه مع عائلته في بحر الجوع، مع العجز عن تأمين مصاريفه الاساسية: اقساط المدارس والجامعات، تأمين الغذاء الكافي لعائلته بسبب الارتفاع الفاحش في سعر الدولار، من دون مبررات مفهومة، الفراغ السياسي الموحش في غياب القدرة على اتخاذ القرار، تفرق صفوف التكتلات السياسية، غياب الدولة عن الوعي بمسؤوليتها، وغرق الحكومة في ازمات متلاحقة لا تعرف كيف تتحاشاها ولا تقدر على التعامل بشكل حاسم معها ..
أما سوريا التي كان يعرفها العرب ب”قلب العروبة النابض” فهي ممزقة الاوصال الآن بالاحتلال التركي لمعظم شمالها مع بعض الشرق بالشراكة مع غزوة اميركية لمنابع النفط والغاز في شرق سوريا (بين الحسكة ودير الزور).
هذا في حين تتولى روسيا (ومعها، بشكل ما، إيران ومعها “حزب الله”) حماية دمشق وحلب والحدود مع لبنان، من دون أن تستطيع (او تريد؟) منع الغارات الجوية الاسرائيلية على مختلف انحاء هذه البلاد التي كانت – ذات يوم- درة النضال العربي والقلب النابض للوحدة العربية بالتحرر وحماية كرامة الانسان العربي.
فأما العراق فالحكم فيه متعثر، وبقايا الاحتلال الاميركي من الرموز السياسية تعطل السلطة في بغداد بخلافاتها ونهبها المنظم لمقدرات البلاد… وقد عجزت السلطة “الاتحادية” حتى الآن عن اخراج بقايا الاحتلال الاميركي- الدولي للإطاحة بحكم صدام حسين، وتمتين الوحدة الوطنية، وحسم المسألة الكردية بما يعيد إلى العراق وحدته ومنعته ويحمي خيراته، ويمنع الاجتياحات التركية المتكررة لشماله بذريعة مقاتلة الاكراد بدعوى أنهم يهددون سلامة السلطان اردوغان ودولته.
ومفهوم أن السعودية وامارات الخليج هي محميات أميركية (مع ظلال اسرائيلية مكشوفة.. وآخر ما حرر تلك الطائرة الاماراتية التي هبطت في مطار تل ابيب بذريعة انها تحمل بعض المساعدات لأهالي قطاع غزة..)
كذلك فان مصر عبد الفتاح السيسي، التي اعترف “ساداتها” بدولة العدو وعقد “معاهدة للصلح” معها بإشراف اميركي مباشر‘ يتيح لإدارة ترامب أن تتدخل في الامور جميعاً، الاقتصادية والسياسية والامنية.
وقد اضيف إلى المصاعب الاقتصادية “الهم الليبي” بعدما قرر السلطان اردوغان أن يغزو تلك الدولة التي اضاعتها التحولات المفاجئة “لأمبراطورها” معمر القذافي الذي حكمها دهراً مرة كرئيس، ومرة كملك الملوك، ودائما بشخصه منفرداً، بعدما تخلص من رفاقه جميعاً ليفسح المجال لأبنائه أن يتصدروا واجهة السلطة ومركز القرار فيها.
*****
هكذا اذن: لا دولة مستقلة، فعلاً، في هذا الوطن العربي الكبير!
فالسعودية وامارات الخليج تحت حماية اميركية معلنة، مع هامش للحركة كالتي تملكه امارة الغاز قطر في علاقاتها مع العدو الاسرائيلي، او دولة الامارات للاندفاع إلى “استعمار” اليمن بعد تشطير دولته المشطرة اصلاً، ثم إلى ارسال بعض طائراتها إلى مطار تل ابيب بذريعة نقل المؤن إلى اهالي غزة!
إن “البدو” من حكام العرب يتمتعون بحرية مطلقة تتجاوز المحرمات جميعاً، سواء في التنازلات المتتالية التي تعادل الخيانة للعدو الاسرائيلي فضلاً عن أن قرارها جميعاً في اليد الاميركية- الإسرائيلية.
بالمقابل فان قوات اميركية وبريطانية وفرنسية ما تزال ترابط في انحاء مختلفة من العراق، امتداداً لغزوها ارض الرافدين لإسقاط صدام حسين وتسليمه إلى شيعة العراق لكي يعدموه فتكون فتنة.
كذلك فان في سوريا المنهكة بالحرب فيها وعليها قوات روسية وايرانية حليفة، وثمة كتائب من مقاتلي “حزب الله” يحاولون مساعدة الجيش السوري في التصدي للميليشيات التي تغذيها وتمولها تركيا اردوغان.
وعلى هذا فان قوات السلطان اردوغان تقاتل العرب والكرد والامازيغ في كل من سوريا والعراق وصولاً إلى ليبيا… متجاوزة حدود آسيا إلى افريقيا، حيث تملك قاعدة عسكرية بحرية في بعض شاطئ السودان.
*****
لقد انفض عقد “العرب” وهانت عليهم كرامة ارضهم وحقهم في الحرية فانقضَّت عليهم الدول القادرة، او التي تستضيفهم او تستهين بدولهم لتحتلها، ولو كانت بعيدة عنها في الجغرافيا، وان كانت في ذهن اردوغان بعض ارض السلطنة العثمانية، كما حاول أن يبرر حملته البحرية-البرية لغزو ليبيا ولو بعسكر من المرتزقة او من بعض من لجأ من فقراء السوريين، هرباً من الحرب متعددة الهوية والعسكر التي تشن منذ سنوات على الدولة التي كانت ، في زمن مضى، قلب العروبة النابض واحدى ابرز عواصم القرار في الوطن العربي.
لكأنما عاد التاريخ بالعرب مائة سنة إلى الخلف..
لكأنهم اليوم في اعقاب الحرب العالمية الأولى، يتوزع بلادهم “الحلفاء”، بريطانيا وفرنسا، قبل أن تدخل على الخط الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي لمساندة الحركة الصهيونية في قرارها انشاء الكيان الصهيوني فوق الارض العربية.
*****
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..!
طلال سلمان كاتب ورئيس تحرير صحيفة السفير