المقصود نظام التفاهة، بل أنظمة التفاهة، والمقصود المجتمعات التي تخلّت عن القيم مقابل الاعتماد الكلي على النظام الإداري للوظيفة. وهو عنوان كتاب للفيلسوف الكندي ألان دونو وهو يبحث عن الأسباب التي جعلت التافهين يمسكون بمواقع القرار في العالم، سياسياً، و اقتصادياً .
انا لم أقرأ الكتاب لكنني قرأت عنه في موقع الجديدة وبمتابعة أبو أيوب ، واريد أن اعرض ما كتبه على السادة القراء كما هو حرفيا :
(ربح التافهون الحرب و سيطروا على عالمنا و باتوا يحكمونه).
يعطي أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية نصيحة فجّة لناس هذا العصر: «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة و كن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة»!)
دونو يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة»، صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه، أو تبيع كتباً و مجلات و أنت لا تقرأ منها و لو سطراً واحدا. انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط». وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة».
• السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول أنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، و استبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم و مثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».
من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، و تفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. و صارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً و ذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة : «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها. لكن يعرفها الجميع : انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والإنتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده و مبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً و لأية أهداف…
أفضل تجسيد لنظام التفاهة، يقول دونو، صورة «الخبير». هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم و مثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة ان «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي و لا لحسّه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، و الأهم أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات السوق.
هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. و يسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام و عن التزام الإنسان.
كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟ يجيب دونو : ما من وصفة سحرية. الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة و القطاع العام و الخير العام… و أن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما.
الأساس أن نقاوم.!
د.ناصر اللحام