لا أعتقد أنّ هناك أمَّةً في العالم تشهد خليطاً من الصراعات والتحدّيات كما هو عليه حال الأمّة العربية. فهذه الأمَّة تشهد، وعلى مدار قرنٍ من الزمن، مزيجاً من الأزمات التي بعضها هو محصّلة للتدخّل الخارجي والأطماع الأجنبية، وبعضها الآخر هو إفراز لأوضاع داخلية يسودها الاستبداد السياسي والتمييز الاجتماعي والفوضى الإقتصادية والفساد الإداري، إضافةً إلى جمود فكري في كيفيّة فهم الدين وعلاقته بالمجتمع.
ورغم ومضات الأمل التي ظهرت عربياً بين فترةٍ وأخرى، واستمرار إرادة العمل من أجل التغيير على أكثر من ساحة عربية، فإنّ المراوحة في المكان نفسه، بل التراجع والانحدار الخطير، هما السمة الطاغية الآن على الأوضاع العربية.
وقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي واجهت العرب، كمشكلة الاحتلال والتدخّل الأجنبي، أو كقضايا سوء الحكم والتخلّف الاجتماعي والاقتصادي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمّة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها .. لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها كلّ هذه التحدّيات في آنٍ واحد كما يحدث الآن على امتداد الأرض العربية.
فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيه في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر، خاصّةً بعد غياب دور المرجعية الفاعلة الذي كانت تقوم به مصر، وبعدما تعطّلت البوصلة التي كانت تُرشد العرب، وهي القضية الفلسطينية كرمز للصراع العربي/الصهيوني.
لقد عاش العرب حقبةً زمنية مضيئة في منتصف القرن العشرين حينما كانت هناك مرجعية فاعلة وبوصلة سليمة، فكانت أولويات العرب واحدة وجهودهم مشتركة من أجل معارك التحرّر الوطني من الاستعمار الأجنبي، ثمّ جاءت حقبة الستينات التي طغت عليها قضية الصراعات الاجتماعية إلى حين الهزّة الكبرى للمنطقة التي أحدثتها هزيمة العام 1967.
إذ تبيّن أنّ الصراع مع إسرائيل، بل وجود إسرائيل نفسها في المنطقة، قادرٌ على الإخلال بأي توازن يصنعه العرب لأنفسهم، وبأنّه يدفع الكثير من الأولويات إلى الخلف، وبأنّه يهدم إنجازاتٍ كبرى تكون قد تحقّقت في قضايا أخرى. هكذا كان الدرس الذي أدركه جمال عبد الناصر في مصر عقب حرب العام 1967، حيث تراجعت أولويات مصر الناصرية في قضايا الوحدة والتغيير الثوري للمنطقة، وبرزت أولويّة المعركة مع إسرائيل التي من أجلها جرى آنذاك التحوّل الكبير في سياسة القاهرة. فكان التركيز الناصري هو على مواجهة التحدّي الإسرائيلي ووقف الصراعات العربية/العربية مهما كانت مشروعيّة بعضها، وبناء ركائز سليمة لتضامن عربي فعّال ظهرت نتائجه الهامّة في حرب أكتوبر عام 1973، رغم وفاة جمال عبد الناصر قبل حدوثها، لكنّها كانت محصّلة للسياسة الداخلية والخارجية التي وضعها ناصر بعد حرب 1967.
وكم كان جهلاً متعمّداً للحقائق حينما أصرّ البعض على اعتبار أنّ ما عاشته الأمّة العربية في العقود الأربعة الماضية هو إفراز لنتائج هزيمة عام 1967 بينما الواقع أنّ التحوّل السلبي الخطير قد حدث بعد حرب أكتوبر 1973، حينما عملت الإدارة الأميركية آنذاك على إخراج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، وما سبّبه ذلك من انهيار للتضامن العربي ومن بدء الصراعات العربية الأهلية (كحرب لبنان التي انغمست فيها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية وقوى عربية أخرى) أو الحروب الحدودية كما حدث بين عدّة دول عربية، إضافةً إلى إشعال الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت، وما أدّت إليه هذه الحروب الخليجية من استنزاف هائل للثروات العربية ولطاقات دول عديدة في الخليج العربي. وهذه الحروب “الأهلية” و”الحدودية” و”الخليجية” كلّها كانت تحدث في الربع الأخير من القرن العشرين بينما تسرح إسرائيل وتمرح في المشرق العربي وتجتاح لبنان وعاصمته، وتزيد من المستوطنات اليهودية ومن تدمير مقوّمات الحياة للشعب الفلسطيني.
حدثت هذه الحروب الاستنزافية للأمَّة العربية في الوقت نفسه الذي ازدادت فيه مشكلة انعدام الديمقراطية والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وسوء إدارة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فزادت الحكومات تكلّساً وتكاسلاً بينما زادت الشعوب تخلّفاً وفقراً.
ثمّ جاء مطلع القرن الحادي والعشرين ليحمل معه المزيد من المآسي لأوضاع هذه الأمَّة، حيث انفجرت قضية “الحرب على الإرهاب” لتكون أرض العرب ساحتها الرئيسة، في ظلّ إدارة أميركية وظّفت الإرهاب على أميركا والحرب على الإرهاب لصالح أجندة خاصّة بها، كان الأساس فيها الشرق الأوسط عموماً والمشرق العربي خصوصاً.
الآن، تعيش الأمّة العربية كلّ أنواع الحروب الأهلية والأزمات الإقليمية والصراعات الدولية وأعمال العنف والإرهاب وبروز جماعات متطرّفة في أكثر من بلد عربي.. وكلُّ ذلك يحدث دون بوصلة سليمة ترشد هذه الأمّة إلى الهدف الصحيح، وفي غياب قيادة عربية جامعة لإرادات الأمَّة المبعثرة.
لذلك، هي حاجة كبرى الآن إعادة تصحيح البوصلة في الحدِّ الأدنى، وتلك مسؤولية تقع على عاتق مفكّري هذه الأمَّة وقياداتها المدنية الفاعلة، وممّا يستوجب أيضاً ضرورة صياغة “مشروع عربي مشترك” أو رؤية عربية لمستقبلٍ أفضل، تحمل في مضامينها حسماً لمنطلقات، ورسماً لغايات، وتحديداً لوسائل تؤدّي بمجملها إلى تصويب منشود للصراعات، وإلى إعادة ترتيب أولويّات هذه الأمَّة وطنياً وعربياً.
صحيحٌ أنّ المسألة الديمقراطية هي أساس مهمّ للتعامل مع كلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، لكن العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيّد، وتفترض حمولةً عليها، وهدفاً تصل إليه. وهذه الأمور ما زالت غائبة عن الدعوات للديمقراطية في المنطقة العربية. فتوفُّر آليّات الحياة السياسية الديمقراطية وحدها لن يحلّ مشاكل الأوطان العربية، بل العكس حصل في عدّة بلدانٍ عربية شهدت من الديمقراطية مظاهرها فقط وآلياتها الانتخابية.
ومهما توفّرت أفكارٌ جيّدة في الساحة العربية، فإنّ وجود الفكرة وحده لا يكفي. فالفكرة، كي تتحوّل إلى دعوة ناجحة، تتطلّب وجود أربعة عناصر لهذه الدعوة :
1. وضوح الفكرة وسلامتها وانسياقها مع الواقع، وانطلاقها من الأصول المبدئية للهويّة الثقافية العربية ولمضمونها الحضاري، لا من الفروع التفصيلية الموجودة فيها.
2. وجود الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين يحملون هذه الفكرة، والذين ينسجم سلوكهم مع طرحهم الفكري، بحيث لا تبرز مشكلة الانفصام بين الفكرة والتطبيق، وممّا يجعلهم – بما يجب أن يتحلّوا به من كفاءة وقيم ومبادئ – نقطة جذبٍ للفكرة نفسها.
3. بناء مؤسسات متنوّعة المجالات، متعدّدة الرؤى لأساليب العمل، ديمقراطية الأسلوب والبناء الداخلي .
4. رفض استخدام العنف بكافّة أشكاله في أسلوب العمل من أجل التغيير، ثمّ التعامل مع الظروف المحيطة بحكمة ومرونة من أجل تحسين هذه الظروف لتنسجم مع إمكانات الدعاة ومؤسساتهم.
أيضاً، إنّ التوافق على فهمٍ مشترك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار أو عمل يستهدف تحقيق نهضة عربية. فالتشويه حدث ولا يزال في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغييرٍ إيجابي بكثيرٍ من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها. فمصطلح “الشرق الأوسط” أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير “الأمَّة العربية”. ومصطلح “المصالح الطائفية والمذهبية” أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن “المصلحة الوطنية أو القومية”.
إنّ التحرّر الوطني، واستقلالية القرار الوطني، هما الأساس والمدخل لكلّ القضايا الأخرى بما فيها مسألة الديمقراطية. وإنّ أولويّة الإنسان العربي، في أيِّ بلد عربي، هي تأمين لقمة العيش بكرامة وتوفير العلم والسكن والضمانات الصحّية لأفراد العائلة. وهذه الأولوية للمواطن لا تتناقض مع أولويات الوطن من حيث التحرّر والبناء الدستوري السليم. فإذا كان واجب المواطن هو العمل الصالح في المجتمع، فإنّ واجب الحكومات هو توفير معاني المواطنة لكي يتعزّز الولاء الوطني لأبناء الوطن الواحد.
إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى بناء مؤسسات وروابط عروبية ديمقراطية تحرّرية تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، مؤسسات فكرية وثقافية وسياسية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.. وإذا ما توفّرت القيادات والأدوات السليمة يصبح من السهل تنفيذ الكثير من الأفكار والمفاهيم والشعارات ..
صبحي غندور *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.