الجُملة التي تُثير الغيظ، وترفع ضغط الدّم، هي تِلك التي يُردّدها بعض المَسؤولين والكتّاب والمُعلّقين العرب سواء في مقالات الصُّحف، أو في مُقابلات على شاشاتِ التّلفزة، تتلخّص في أنّ إيران تُسيطِر على أربع عواصِم عربيّة، ويَذكُرون دِمشق وصنعاء وبغداد على رأسِها.
قد يكون أحد المسؤولين الإيرانيّين هو صاحِب حُقوق النُشر، باعتباره أوّل من قالها، وتلقّفها بعض العرب المُعادين للمشروع الإيرانيُ، ولكن تِكرارها بطريقةٍ مُملّةٍ، تُدين قائِليها ودولهم أكثر ممّا تُدين إيران.
إذا كانت إيران تُسيطر على هذه العواصِم العربيًة، ونحن نَشُك في ذلك، فهذا راجِعٌ إلى غِياب المشروع العربيّ، وانتِشار الفساد، وإهدار آلاف المِليارات في التّرف وتمويل خزائِن الدول الغربيّة عبر صَفقات أسلحة لم تُستَخدم مُطلقًا إلا ضِد الشّقيق العربيّ.
الحُكومات العربيّة التي تَعتَبر إيران هي الخَطر الأكبر وليس إسرائيل، هي التي انخَرطت في مشروع التّدمير الأمريكيّ في العِراق واليمن وسورية وليبيا، سواء بالتّمويل الذي وصَل إلى أكثر من 300 مليار دولار على الأقل (مصاريف الحرب في اليمن التي تَدخُل عامها الخامِس الشهر المُقبل وحدَها تصِل إلى 7 مليار دولار شهريًّا، حسب معهد بروكنغز الأمريكيّ)، أو توفير الغِطائين السياسيّ والإعلاميّ لهذا المُخطّط التدميريّ.
***
إيران ورغم أربعين عامًا من الحِصار الأمريكيُ، أقامت دولة مؤسسات وطوّرت صناعةً عسكريّةً جبّارةً عِمادها الصواريخ الباليستيّة، مثلما طوّرت برامج نوويّة جبّارة استخدمتها كورقة ضغط لتركيع الغرب وأمريكا، والأهم من ذلك خرجت على العالم بظاهرة الفصائل العسكريّة الثوريّة المُسلّحة والمُدرُبة، وجعلتها أذرعها الضّاربة في مُحيطها العربيّ والأفغانيُ، في الوقت الذي دمّر فيه الحُكّام العرب المُقاومة الفلسطينيّة بتحريضٍ أمريكيّ تحت ذريعة السّلام، والتَقطت إيران هذه الهديّة العربيّة الأمريكيّة التي لا تُقدّر بثمن، وكان البَديل في لبنان “حزب الله”، وفي العِراق “الحشد الشعبي”، وفي اليمن حركة “أنصار الله” الحوثيُة، وفي قِطاع غزّة حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، والآن تدعم إيران حركة “طالبان” في أفغانستان التي باتت على وشك العودة إلى الحُكم، وإعادة بناء إمارتها الإسلاميّة مُجدَّدًا.
سبعون دولة اجتمعت في وارسو يوم الخميس الماضي بزعامة الولايات المتحدة لمُواجهة إيران، وبتَحريضٍ من دولة الاحتلال الإسرائيليّ، وكانت النّتيجة بيانًا باهتًا، وخِلافات عميقة، ومُقاطعة أوروبيّة، وغِياب روسيا والصين والهند، والحُكومات الإسلاميّة والدوليّة الشّريفة، وكان وزراء الخارجيّة العرب مِثل الزّوج المَخدوع يهربون من أسئلة الصِّحافيّين خجلًا وعارًا.
ألا يسأل هؤلاء الذين يتوّجون نِتنياهو حليفًا، وحاميًا لهم، أنفسهم عن الأسباب الحقيقيّة التي جعلت إيران العدو الأخطر بالنّسبة إلى إسرائيل وأمريكا؟ أليس الاحتلال الإسرائيليّ للأرض الفِلسطينيّة والمُقدّسات العربيّة الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس المحتلة؟ ألا تجعل هذه الحقيقة التي بات الرُّضَّع العرب يعرفونها، أن إيران دولة وطنيّة في نظرِ قِطاعٍ كبيرٍ مِن الرأي العام العربيّ؟
لو تحالفت إيران مع العدو الإسرائيليّ ضِد العرب والمُسلمين، لما احتَشدت كُل هذه الدول بالعَصا الأمريكيّة ضدها، ولكانَت إيران الدّولة “المُدلّلة” بالنّسبة إلى الغرب والشرق معًا، ولفرضت الجزية على كُل الممالك والإمارات العربيّة في منطقة الخليج العربيّ بضُوءٍ أخضر أمريكيّ إسرائيليّ.
***
إنّه أمرٌ مُهينٌ أن يتحدّث عرب عن سيطرة إيران على أربع عواصم عربيّة، مُهينٌ لهم، لأن هذا الحديث يكشف فشلهم وقُصورهم الذي أدّى إلى هذا الوضع العربيّ المُخجِل، وعليهم أن يكفّوا عن البُكاء واللّطم، والبحث عن استراتيجيّات وبرامج عمل وتسليح تعود بالأُمّة إلى ينابيع الكرامة والوطنيّة، وتُحصّن مُدنها وعواصِمها، من أيّ نُفوذٍ أجنبيّ.
من يُريد مُواجهة النّفوذ الإيرانيّ لا يذهب إلى بنيامين نِتنياهو مُتذلّلًا طالبًا الحماية، ويتوِّجُه زعيمًا على المِنطقة بأسرها، ويُقدِّم له كل الطُاعة والولاء، بل يمتلك أسباب القُوُة ويسعى لبِناء مشروعٍ عربيٍّ مُقاوم يُعيد للأُمّة ريادَتها.
في مؤتمر وارسو باع بعض العرب المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وكُل مدينة القدس المحتلة، مِثلما باع أبو عبد الله الصغير غرناطة إلى فرديناند وإيزابيلا، ولكن مع فارقٍ أساسيٍّ أنُ أبو عبد الله الصغير الأندلسي قدّم مفاتيح المدينة نادِمًا وباكِيًا، بينما “أحفاده” في وارسو قدّموا مفاتيح القدس لنِتنياهو وهُم مُبتسمون وفَرِحون.. وإنّها قمّة المأساة، وذروة البُؤس والهَوان.
عبد الباري عطوان