الرحلة الفارسية !! محمد ولد أمين وزير سابق

ثلاثاء, 2016-09-13 22:15

من البداية ودون لف ولا دوران أقر واعترف وابصم بالعشرة على حبي للحضارة الفارسية وولهي بشعراء إيران ومبدعيها !

لا مجال لإنكار مشاعري نحوهم حتى ولو اعتبر البعض ذلك شعوبية مارقة.. فليس للحب تبرير.. ولا للهوى قانون..وليس لي على حبي لهم من سلطان بعد ان لامسوا في روائعهم شغاف روحي وصعدوا بها لأمجاد السماوات العلوية هناك بعيدا حيث توجد شواهق اللذة الأثيرية ثم أنزلوها للحضيض هنا حيث توجد وهدات الألم.

في البدء ناغيت رباعيات عمر الخيام ثم تعشقت غزليات حافظ الشيرازي وسافرت مع الفردوسي في شاهنامته بعيدا .. وحين التقيت بالفنان موريس بيجار- طيب الله ذكره- ذات مساء سويسري رائع اكتشفت أني لست وحيدا في انبهاري بتلك الحضارة العريقة التي تخلط في منمنماتها وسجادها ..في شعرها ونثرها بين روحانية الإسلام وحكمة الهند وعقل أوروبا.

إنها حضارة هندو- أوربية مسلمة وورعة وذلك ما أسكر قبلنا غوته وخلب لبه ..ولعله نفس الباب الذي دخل منه الفقيد موريس بيجار ديننا الحنيف ..دين السماحة والجمال !

مازلت اعتبر دون مبالغة ولا تطاول على أحد ان الفرس أعطوا للأمة الإسلامية وبسخاء نادر كنوزهم العظيمة وكيف لا وقد خندقوا دفاعا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ..ومنهم أخذت الدواوين وأنظمة المحاسبة أيام الفاروق .. ووصل عطائهم أوجه حين اندمجوا اثر الفتوحات في عمق النسيج الإسلامي فرفعهم الإسلام ورفعوه عاليا.. ساعتها وساعتها فقط أصبحت بغداد عاصمة العالم وموطن الإبداع ودار الحكمة بلا منازع.

لا سبيل لإنكار دور الفرس في نهضة الإسلام خلال تلك القرون المجيدة التي شهدت تكامل حضارات وقوميات مختلفة وحدها الدين الحنيف وجعلها بعد الحروب المريرة إخوانا ...وهو نفس التكامل الضروري لنهضة العالم الإسلامي التي بدأت إرهاصاتها تتبلور وتتجلى أمام باصرتنا.

لكم خفق قلبي – وأنا بعد في ميعة الصبا- حين رؤيتي لذلك الشيخ المسن صاحب العمامة السوداء وهو يخطب من باريس ويقتلع دولة الشاه محمد رضا بهلوي بجذورها مستعينا بآي القرآن وعزم الرسول ليؤسس على أنقاضها الجمهورية الإسلامية .

الثورة الإسلامية – بالنسبة لي - هي اكبر ضربة وجهت للشوفينية والقومية المتعصبة خلال القرن المنصرم.. وهو قرن محتقن وحقود سيطرت فيه البغضاء العرقية والطائفية السخيفة على المشهد الشرقي منذ الحرب العالمية الأولى.

نعم انه قرن بدأ بالنزاعات البغيضة التي أفرزت في مغامرات متعددة سايكس بيكو في الوطن العربي , وهيمنة الاتحاد والترقي عبر الكمالية الفاسقة في تركيا وبروز تاجر الحمير رضا شاه في إيران ..وانتهى ذلك القرن البائس على وقع الحرب العبثية والمدمرة بين العراق وإيران وتداعياتها الكثيرة.

لا يخفى على ذي بال ان حالة التمزق والتشرذم بين المسلمين كانت ومازالت محل ترحيب وحفاوة من أعداء الملة لذلك نجدهم يتغنون دوما بشاه إيران الذي كان يوفر لدبابات إسرائيل الوقود الضروري لمهاجمة العرب ويفتخرون بكفر أتاتورك وإغلاقه للمساجد وطمسه لشرقية الأمة التركية.. و يفرحون كثيرا حين يصرف المال العربي لتدمير إيران وشل حركيتها وإذلالها؟

أنا بكل بساطة لا افهم لماذا يعتبر بعض العرب ان إيران عدو استراتيجي لهم لأنني لم أجد دليلا واحدا على صدقية تلك المزاعم , لم أجده في كتب التاريخ .. ولم ألمحه في خرائط الجغرافيا .

ليس يجمعنا معهم إلا الماضي الزاهر والحاضر الذي يفرضنا على التحالفات الكبرى والمثمرة وبكل صراحة هم سند مهم لنا كعرب وحليف طبيعي نحتاجه بقوة.. اللهم إلا من كان يريد منا ان يخلط الأجندات ويعطي لأمريكا أو لإسرائيل أو لفرنسا الحق في إن تحدد له صداقائه وعداواته !

لقد شن صدام حربا مجنونة ومزق وثيقة تاريخية وقتل الشاهد الجزائري عليها.. ومول العرب قادسية زائفة قادها مغامر مشهور ضد بلد آمن ومنشغل بتنظيم نفسه واغتنم الأمريكان والأوروبيون الفرصة وبذلوا جهودا جبارة في إدامة تلك الحرب حتى تقتل اكبر عدد من الفرس ومن العرب !

سقطت الدولة العراقية بسهولة في فخ الحرب مدعومة من دول عربية عديدة..ثم خسر البلدان قرنا كاملا من انتاج النفط وضاعت جهود التنمية سدى.. ولعل أكثر مظاهر الدعم العربي للعراق كاريكاتورية هو قطع الجمهورية الإسلامية الموريتانية لعلاقاتها الديبلوماسية مع إيران سنة 1987 بحجة ممارسة إيران للإرهاب ضد دولة الكويت في حادثة اختطاف طائرة الجابرية والأكثر غرابة فيه هو ان دولة الكويت الشقيقة نفسها حافظت على علاقات متواصلة مع إيران !

لذلك فرغم عروبيتي المتجذرة وحبي لدولة الكويت - التي عشت فيها ومازلت اعتبرها ديرتي - فقد جرحني نرجسيا ذلك القرار المستهتر إذ لا يعقل ان نكون أكثر ملكية من الملك وأشد حماسا من البلد المعني نفسه هذا إذا ثبت فعلا ان إيران سعت لزعزعة استقرار ذلك البلد الشقيق والمسالم وهو بالمناسبة نفس البلد الذي تنكرنا له فور احتلال العراق له ونسيناه ونسينا نوبة التودد العابرة التي طردنا في خضمها سفارة إيران البلد الكبير والمحوري على كل المستويات..وفي القرارين كثير من عبثية !

ولهي بحضارة الفرس دفعني للاهتمام بما يجري هناك ولقد سقطت مغشيا علي من حجم النهضة العلمية في إيران الحديثة.. ولست وحدي في ذلك فكل من ألقى نظرة واحدة على حركة الترجمة من لغات الغرب الأساسية كالفرنسية والألمانية والانجليزية نحو الفارسية سيدهش من هول النشاط الثقافي والعلمي الإيراني .

وكيف لا وقد ترجم الفرس في خمس سنوات مالم يترجمه العرب في قرن كامل !

هكذا وصلت دوائر ومراكز البحوث عندهم في العلوم الأساسية مستويات غير مسبوقة حيث استطاعوا في جيل واحد ردم الهوة بينهم والدول الأوروبية في عدد الأطباء والصيادلة والمهندسين والتقنيين المهرة وتلك هي المعجزة الإيرانية التي ما كان لها أن تتحقق في بلد منهك بالحرب ومحاصر منذ 30 سنة لولا روح التحدي التي تعيش في وجدان الكائن الإيراني .

لقد فهم هؤلاء ان أول وأهم شرط للتنمية والنهضة هو عنصر الانسجام النفسي لأن الإنسان المستلب فكريا والممزق ثقافيا إنسان مشوه وغير جاهز للسباق والمواجهة وهذا العنصر النفسي هو سر نهضة اليابان قبلهم وكذلك جل الأمم الآسيوية .

ما حدث في إيران امتداد لنهضة آسيا وسيطرتها على وسائل العلم الحديث وتلك ظاهرة تكررت كثيرا ولا مناص من فهم حتمية انتقال الأفكار وعدوى الحضارات لفهم النقلة النوعية التي حدثت في تلك الربوع.

وقد تشرفت شخصيا باستقبال الدكتور محمد رضا رحيمي نائب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في زيارته القصيرة لانواكشوط إبان الحرب على غزة وقد شجعه على زيارتنا القرار الطيب والخجول الذي اعتمده النظام الموريتاني ساعتها والقاضي بسحب سفيرنا من تل ابيب كتعبير بسيط عن امتعاضنا من مجازر اسرائيل في غزة.

الدكتور رحيمي رجل نادر وقانوني بارز في بلاده وهو خمسيني وسيم ووقور وله ملكة عجيبة في اختيار مفرداته ولقد شملت مباحثاتي معه مجمل القضايا المشتركة وخصوصا علاقاتنا بإسرائيل وقد لمست فيه الكثير من وضوح الرؤية وتطابقها مع رؤيتي الخاصة حول ضرورة التنسيق الفعلي بين الدول الإسلامية لمواجهة كل تحديات العولمة .

انه شخص رائع وسمح وقد صدم من بعض القيادات الموريتانية خلال مقامه حيث لمس فيها نوعا من التردد وشيئا من العجز حتى عن مسايرته في الحديث والمجالسة وهذا أمر مؤسف لكنه مألوف في ذوي الخلفيات العسكرية ضعيفي الثقافة والمتجهمين دوما !

وقد رافقه وفد رفيع المستوى شمل عددا من الخبراء والسفراء وقد تواصلت مباحثاتنا حتى وقت متأخر في إقامته في قصر المؤتمرات واتفقنا على مسلسل إعادة العلاقات بين البلدين والدفع بالتعاون الثنائي قدما وما كان لي التجاسر في الجزم بذلك لولا الضوء الأخضر من رئيس المجلس الأعلى رئيس الدولة وهو ضوء اخضر فرضته حالة العزلة السياسية التي وجدنا فيها أنفسنا بعيد انقلاب السادس من آب 2008

لقد لمس الدكتور رحيمي فينا الكثير من روح الإعجاب والتقدير لبلاده وكل من يعرفني يعرف اهتمامي بالحالة الإيرانية بل ومراهنتي على النهضة الإسلامية التي كما وسبق وأسلفت لن تعرف النور دون اكبر تنسيق بين العرب والفرس والترك وهي الأمم الكبرى في الفضاء الحضاري الذي شيده أجدادنا عبر القرون.

لذلك فور عودته وصلتني دعوة منه لزيارة طهران لأتدارس معه بهمم شامخة مستقبل العلاقات بين البلدين وقد أرسل فخامته تلك الدعوة عبر سفيرهم في تونس وسلمها لسفيرنا ووصلت الخارجية لكن وزارة الخارجية تعمدت التكتم عليها بل أنكرت وجودها من أساسه !

استغربت الأمر كثيرا لأن نسخة الكترونية وصلتني بالانترنت وقد اخبرني سفير إيران بتونس تلفونيا بالتفاصيل وقد شرحت الأمر للجنرال عبد العزيز ووافق على السفر ونبهت الوزير الأول على الأمر وشرحت له كيفية الاستفادة القصوى من زيارتي لطهران وقلت لهما ان ابسط فوائد وجودي في طهران ستكون إعادة تقييم الموقف أمريكيا وأوربيا لأن الدول الغربية وحلفاؤها في المنطقة لن يقبلوا ان نترامى في أحضان إيران وهكذا سيتراجعون أوسيكونون أكثر مرونة ونصحتهم بإظهار الحزم والصرامة في شؤوننا السيادية إذ لا يحق لأحد أن يحدد لنا أصدقائنا خصوصا إذا كان يناصبنا العداء !

وصلت لمطار الإمام الخميني بطهران قادما من دبي وقد لقيت على رأس لجنة الاستقبال شخصا لم أكن اعرفه من قبل وهو مستشار في رئاسة الجمهورية وأحد اكبر الأطباء في إيران انه رجل ستيني أنيق ناصع البشرة اختلط سواد شعره ببياضه طويل القامة نحيف البنية ومعه رجال المراسم وكان يتحدث بلغة عربية فاخرة بلكنة عراقية نجفية عريقة واسمه على ما اذكر ريازي وهو ينحدر من عائلة بحر العلوم المشهورة في البلدين وهو عديل السيد احمد الخميني – نجل الإمام الراحل- وقد عرفت ان الدكتور ريازي تعرض خلال الحرب مع العراق لهجوم كيمياوي من غاز الأعصاب حرمه من الإنجاب ورافقته عقابيل تلك الحادثة طويلا واسترسل في سردها خلال المسار المؤدي للمدينة ومن بين تلك التفاصيل انه مات سريريا ووضع في الثلاجة لكن العناية الإلهية أيقظته في يومه الثالث وتمكن من العودة للحياة بعد ان اعتبره اقرانه في خط القتال شهيدا وأتذكر انني سألته عن ذكرياته خلال حالة الغيبوبة ومرد ذلك اهتمامي العلمي بقضايا ميتافيزيقية أخرى وقد وجدت فيه من التفهم وسعة الاطلاع ما جعلني اشعر بأننا أصدقاء من مدة طويلة.

في الصباح الموالي التحقت بالدكتور رحيمي في مكتبه بقصر المرمر بوسط طهران وخلال مذاكراتنا اتفقنا على مسلسل إعادة العلاقات الذي يجب ان يبدأ بزيارة رئيس موريتانيا لطهران ورئيس ايران لموريتانيا وبعد ذلك إعادة فتح سفارات البلدين والتزم بمساعدتنا على فتح سفارتنا في طهران ثم امر مساعديه بتنظيم زيارات لي مع كل هيئات التعاون مثل وزارة الصحة والهلال الأحمر الإيراني ومكتب التجارة الخارجية ووزارة البترول ووزارة التعليم العالي والتقني والبنك المركزي لأتدارس معهم سبل تعزيز العلاقات الثنائية والخروج بمقترحات ملموسة وقد استفسرت منه عن إمكانية لقاء رئيس الجمهورية لأنني مهتم بالتباحث معه ونقل تحيات رئيس الدولة الموريتانية له فابتسم وقال: طبعا سيستقبلكم فخامة الرئيس وهو يتابع مجريات زيارتكم أولا بأول.

كان برنامج الزيارة في ذلك اليوم خاليا لذلك استفسر مني سيادة المستشار الذي يرافقني عن ماذا أرغب في القيام به وقلت له بودي ان ازور مشهد وان أقف على قبر الإمام علي الرضا ولقد كنت أظن – مخظئا- ان مشهد قريبة من طهران فابتسم وقال بلكنته العراقية الجميلة : من عيوني

أمر بتحضير طائرة اقلتنا بعد ساعة من مطار مهر آباد -أي المحبة الأبدية – وهو نفس المطار الذي نزل فيه الخميني منذ ثلاثة عقود متحديا جيش الإمبراطور في واحدة من أجمل وأروع الملاحم العالمية الحديثة.

بعد ساعة كنت في مطار مشهد وقد لفت نظري وجود جملة عربية تتصدر الواجهة وهي جملة منسوبة للإمام علي الرضا وهي: من زارني في غربتي في ارض طوس فرج الله كربته يوم القيامة !

انطلقنا إلى الصحن الرضوي الذي يتوسط المدينة المقدسة عند الإخوة الشيعة وهو بناء ضخم له منارات كبيرة وتتوسطه قبة من الذهب يرقد تحتها الإمام على الرضا وقد بني ذلك الصرح بالطابوق الأصفر على أرضية من الرخام الفاخر وفي وسط الفناء مسجد ضخم وجميل وبين أروقة المسجد كان عدد كبير من الناس يعتكفون ويتعبدون وكثير منهم كان يقوم بتلاوة جماعية للقرآن... وقد عبق المكان بالبخور والمسك والعنبر حقيقة و مجازا.

فور دخولنا من البوابة الكبيرة توقف مرافقي وراح يسلم على بعض عمال التنظيف ويداعبهم وربما لاحظ سعادته شيئا من دهشتي أمام ترخصه وتباسطه مع عمال يدويين فقال بصوت رخيم ومؤثر:

سيدي قد لا تعرف ان تنظيف هذا المقام بالنسبة لنا شرف كبير جدا وكل الناس تتمنى نيل هذا الشرف وهو ليس امرأ متاحا للكل فهناك لوائح تنظم من سيصله الدور ولقد اعتبر الكثيرون ان هذه السنة ستكون سعيدة لان رئيس الجمهورية تمكن من الحصول على شرف خدمة هذا الصحن لنصف يوم وكم أحزنه انه لم يتمكن من التشرف بالخدمة يوما كاملا. ثم أضاف لقد حظيت شخصيا بتنظيف دورات المياه هنا خلال السنة الماضية !... وجل هؤلاء العمال ببدلاتهم السوداء الذين ترى أمامك من الشخصيات البارزة في هذه الأمة ويتم تشريفهم عبر مسابقة ينظمها كبار العلماء !

 

قد يستغرب القارئ بل ربما يستنكر الجاهل كيف ازور مقاما شيعيا وأنا الموريتاني السني المالكي الوافد من فضاء ديني يرفض البدع ويستسخف أتباعها لكن سيزول استغرابه حتما لو عرف انني سبق وزرت كنائس النصارى وهياكل اليهود كباحث في تاريخ الأديان ولن يستنكر شيئا لو عرف انه ليس هناك نص ديني يمنع المرء من التعرف على الغير في دينه وثقافته لكن وجود حساسية مفرطة تجاه الشيعة وايران تجعل الكثيرين يبالغون في مناصبة العداء لكل ماله علاقة بالعدو المزعوم ويستبسلون في صب النار على الزيت وكأننا في واقعة من وقائع الفتنة الكبرى التي ينصح العلماء عادة بتجنب الخوض فيها !

وقد لا يكون عبثا في هذا المقام ان الفت النظر إلى وجهة نظري الخاصة في الأئمة وفي التشيع عموما.

بالنسبة لي الأئمة من آل البيت ونحن في موريتانيا نحترمهم بل فينا من يستنجد في استمداد ولوعة حارقة بالسلسلة الذهبية والسلسلة الذهبية لمن يتذكرها هي بكل بساطة لائحة شرفاء أفاضل عندنا ويالنسبة لهم هم أئمة ومعصومين ومقدسين !

لذلك فعلي الرضا عندنا شريف محقق النسب وعظيم المكانة ولا مانع من تقديره واحترامه وذلك ما قمت به وانا مرتاح البال حيث وقفت على مرقده المحفوظ بحاجز زجاجي ولم يمنعني التزاحم من ملامسته والدعاء في حضرته وقد ساورني ساعتها شعور غامر بالسكينة والموعظة وهو شعور سبق وعرفت ما يشبهه في زيارات سابقة لمزارات محلية مثل صالحي ميل ميل وسلوار وبالنعمان.. وغيرهم من الأفاضل المحفوظين في جوف الصحراء الموريتانية.

نحن كسنة نختلف مع الأخوة الشيعة في بعض الأمور التاريخية وخصوصا حول مقامات بعض الصحابة لكننا في الجوهر نؤمن بنفس الرسالة المحمدية ونقدس نفس التعاليم القرآنية ونتفق في جل الأمور الفقهية بل يمكن القول دون مجازفة ان التربية الإسلامية التي تلقيت شخصيا تلزم بقوة على احترام آل البيت وتلك عاداتنا الخاصة و لذلك يجب وضع زيارتي لمشهد في تلك الخانة وتلك الخانة فقط.

"الفوبيا" من الشيعة والتشيع تغفل حقيقة أخرى مهمة وهي اننا إذا قمنا بقياس الفوارق او نقاط الاختلاف بين الشيعة والسنة كمذاهب إسلامية وبين أهل الظاهر وأهل التصوف في داخل المدارس السنية سنكتشف ان المسافة لن تكون متباعدة جدا !

مثلا يقول بعض مشايخ التصوف عندنا ان ادعيتهم وابتهالاتهم تعود الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر شخص عاش بعده بقرابة ألف سنة !

ويتشبث جل أهل الظاهر من علماء القطر الموريتاني بنص الآية الكريمة : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ويقولون ويكتبون ان القول بقدسية كلمات أتت بعد وفاة الرسول وعبر شخص من غير زمانه يتناقض مع الآية الكريمة سالفة الذكرالتي تجزم باكتمال الرسالة النبوية.. ولا يخفى على احد ان تلك الخلافات كثيرا ما أخذت بعض المناحي التكفيرية الخطيرة لكن العقلاء- ولله الحمد- تداركوا الأمر دوما وحاولوا تقريب وجهات النظر وسد باب الفتن بين المسلمين !

بالنسبة لي - ولا أزعم التفقه والقدرة على الفتوى- أقول انطلاقا من الفطرة والحس السليم ان هذا الخط المتسامح والمتفهم في داخل العائلة السنية يجب ان يكون الخط الأبرز في علاقاتنا مع المذاهب الإسلامية الأخرى لأن لا فائدة ترجى وراء تفتيت عباد الله وأتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام.

من جهة أخرى أود التذكير بأن الكنائس النصرانية الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية سعت دوما للتصالح المسيحي لمواجهة الإسلام ..وما نجاح اليهود في تحقيق حلمهم الوطني على أرضنا المحتلة إلا تتويج لتصالح الفرق والطوائف اليهودية وتوحيدها في وقت عصيب تفرق فيه المسلمون وتشتتوا فخذلوا تارة بسبب القومية المفرطة وغالبا بسبب التمذهب الضيق الذي هو أصل كل المصائب والابتلاءات التي نتعرض لها .

في طريق العودة من مشهد أكرمني ربابنة الطائرة بمنحي فرصة الجلوس في كابينة القيادة لمشاهدة الهبوط نحو طهران تلك المدينة الكبيرة والجميلة وقد هجعت في ذلك المساء وغلفتها غلالة من نور عجيب ورحت أتساءل عن ماذا سيفعل الله بالعشرين مليون شخص الذين يعيشون هنا وفوق رؤوسهم تهديد وجودي غير مسبوق من اسرائيل التي تملك 200 رأس نووي وتتربص بهم وتقيم الدنيا بالمكائد ولا تقعدها ضدهم وما قد يعنيه ذلك من احتمال الانجرار المجنون نحو حرب نووية يخشاها الجميع ولا يتجنبها أحد !

عدت أدراجي إلى محل إقامتي في فندق استقلال وحاولت ترتيب أفكاري قبل لقاء رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدكتور محمود أحمدي نجاد مستحضرا كل ما سجلت عن فخامته فالرجل يعجبني كثيرا في فهمه لمنطق القوة وغالبا ما أطربتني خطبه في المحافل الدولية وكيف لا وهو من يسمي إسرائيل دون كناية ولا تورية بالورم الخبيث !...واكتشفت في تقليب خطبه ذات اليمين وذات الشمال انها قرينة ثابتة لديه وان فخامته اختار هذه العبارة الاستفزازية عن قصد ورحت أعتصر دماغي لفهم المغزي من ذلك وخطر لي انه تهديد مبطن خطير وغير مسبوق حيث من المعروف طبيا ان علاج الورم الخبيث يكون بطريقتين اما بالوسائل الكيماوية او بالأشعة النووية !!

تكتظ التصريحات النجادية بكل معاني الازدراء والتحقير بالدولة العبرية الى حد السخرية وقد ارتبطت شتائم إسرائيل عندنا كنخب عربية بسلسلة من القادة الفاشلين الذين تتابعوا على امتشاق سيوف اكبر من قاماتهم وهذا سبب عدم اكتساح احمدي نجاد للشوارع العربية حيث سأم الناس من المعارك الصوتية والهزائم المتتابعة فقد وعدهم عبد الناصر بإنهاء كابوس الغطرسة الإسرائيلية بل وعد سمك البحر بأجساد اليهود فضاعت القدس والجولان وسيناء ...واقسم صدام على حرق نصف إسرائيل فاحترقت بغداد.

الإعلام الغربي يصور احمدي نجاد كمجنون وكطاغية شرقي ويعتبر تشكيكه في تاريخية محرقة الهولوكوست معاداة للسامية ومعاداة السامية من رئيس آري عندهم جريمة أخلاقية ومدعاة لتذكر هتلر!

نجاد يعرف كل ذلك لكنه يصر على إعادة قراءة تاريخ الهولوكوست وتفنيده إعلاميا لتدمير عقدة الذنب التي يعتبرها الحاضنة التي خرجت منها دولة إسرائيل للوجود.

زادت فرادة وغرابة حالة هذا الرئيس الحاد التعابير عندي حين تعرفت على النظام الدستوري الإيراني ففخامته يعرف انه سيخرج من الرئاسة بعد ولايتين على الأكثر وذلك فرق كبير بينه وبين الزعماء العرب سالفي الذكر .. وهو فرق يدفع عادة للحكمة والتعقل فالرئيس في إيران رغم كل مناقص وعيوب الديمقراطية الإيرانية ليس مطلق السلطات فهناك هيئة تشخيص مصلحة النظام وهناك برلمان فعال وقوي وهناك مرشد الثورة وبالتالي لا يجوز عقلا ان يتخطى رئيس الجمهورية عندهم في أقواله وتصرفاته الحدود المقبولة والمدروسة والمتفق عليها بين الجميع وبعبارة أخرى الحكم في إيران رغم التيوقراطية البارزة حكم مؤسسات وليس حكما شخصيا ومن هنا ازدادت حيرتي واستفحلت كثيرا.

الدكتور محمود احمدي نجاد أيضا أستاذ جامعي كبير ويحمل شهادات عالية ونادرة عالميا وله مكانة علمية أكيدة وليس ادولف هتلر خريج التعليم المتوسط او صدام حسين خريج مقاهي بغداد او جمال عبد الناصر صاحب الخلفية العسكرية المتواضعة ..ثم تذكرت كيف أديرت حرب 2006 في لبنان وهي حرب إيرانية إسرائيلية في بعض أبعادها وتذكرت ان كلمات حسن نصر الله كانت دوما على مستوى الحدث وكأنها صممت بالمسطرة والقياس الدقيق وبعث ذلك في قلبي نوعا من الاطمئنان حول جدية الإخوة في إيران.

في الصباح التحق بي مرافقي في الفندق وتوجهنا الى قصر المرمر ودخلناه من البوابة الكبرى وهو قصر جميل وفخم كان الإمبراطور الراحل يستخدمه كمكتب وقد رفض الإمام الخميني استخدامه كما رفض السكن في قصر سعد آباد الذي كانت تسكنه العائلة المالكة مفضلا شقة صغيرة في حي شعبي وعلى ذلك المنوال سار المرشد الحالي وقد استخدمت الرئاسة هذه القصور كمكاتب ومحلات إقامة لرؤساء الدول الأجنبية.

قبالة مكتب الرئيس الإيراني استقبلني بحفاوة بالغة صديقي الدكتور رحيمي مرفوقا بكوكبة من رجال الدولة الإيرانية منهم سفراء وشخصيات أخرى وتقدمنا نحو قاعة الاستقبال وانفتح باب خشبي عن قاعة بهية وقد فرش عليها سجاد فارسي ازرق اللون وبديع لم يسبق ان رأيت له مثيلا وكانت الستائر وردية جميلة وفي منتصف القاعة لقيت أمامي فخامة الرئيس محمود احمدي نجاد فاقتربت منه وعانقته وساعة العناق اكتشفت انني فارع الطول حيث كان بمقدوري ان أتفرس فروة رأسه بيسر واستغربت ذلك فكثيرا ما عيرني الناس بالقصر وقلت لنفسي مفاخرا ما دوخ الأرض احد كقصار القامة !

أدنى مجلسي إليه وتربع ترجمان ماهر خلفنا وقد اكتشفت فور جلوسي قربه ان خريطة مثبتتة على الحائط فوقي بالضبط ترسم حدود إيران قد سجل فيها اسم الخليج الفارسي ! وقد تعودت على خرائط اخرى تسميه بالخليج العربي ثم استدركت انهم يحبون تذكير العرب دوما بهذه التسمية وفي الحقيقة لا اعتبر ان التسمية الفارسية للخليج عدوانية أو استفزازية فالفرق كبير بين التسميات والدعاوى القانونية فبحر العرب فرع من المحيط الهندي تطل عليه الهند وباكستان وتسميته ببحر العرب لا تعني بالضرورة عروبته ونهر السنغال ليس ملكا للسنغال وبحر عدن ليس لليمن وحده وأنا هنا على كل حال رسول سلام يتذكر أغنية الست ام كلثوم التي تمجد فيها امة العرب من المحيط الأطلسي وحتى الخليج الفارسي !

بعد تبادل التحية شرعت في الحديث عن إعجابي بالتجربة الإيرانية وقلت ان أكثر ما اثأر اهتمامي بها هو روح الثورة وهي روح تستحق التنويه لأن الغرب يريد ان يرى ايران آرية وصفوية فقط ومصر فرعونية وافريقية فقط وتركيا كمالية وطورانية فقط لكن الأهم ما نريده نحن في نهضة الشعوب الإسلامية وحقها في لعب دور ريادي بحجم مقدراتها ورسالتها الحضارية ثم عبرت لفخامته عن امتنانا وشكرنا لما تقوم به إيران من دعم ونصرة للشعب الفلسطيني .

ثم بلغته رسالة الرئيس الموريتاني وهي وعد واضح بقطع كل العلاقات السياسية وغير السياسية مع دولة إسرائيل.

استلم الرئيس نجاد خيوط الحديث وعبر لي عن فرحه بملاقاتي وترحيبه بطرد ممثلية الورم الخبيث وراح يوضح في استرسال وبلاغة عن ان ايران ليست دولة شيعية فقط وانها بلد إسلامي قبل كل شيء ورغم كل شيء.. ولذلك فايران لا تقبل تفرقة المسلمين ..وقال هناك من يقول بأننا ندعم حزب الله لأنهم شيعة ونحن ندعم بنفس القوة حماس والجهاد وهم سنة هذه المزاعم يقصد منها الإساءة للإسلام ومنع الشعوب من التفاعل الايجابي كي لا تحدث نهضة إسلامية وهنا لب المشكل بيننا وبينهم.

واستفسر مني عن مدى علاقاتنا باسرائبل؟

قلت له : لقد أقيمت هذه العلاقات برعاية غربية اسبانية وفرنسية وترحيب أمريكي وفي خضم جو التفاؤل الذي أعقب اتفاقات غزة وأريحا وقد رفضها الشعب الموريتاني بقوة والغريب عندي يا فخامة الرئيس ان هذا النوع من العلاقات لايزعج الكثيرين في العالم فهناك دول عديدة نصحتنا بمواصلتها واسرائيل تهددنا عبر امريكا وفرنسا بعقوبات دولية والفلسطينيين لم يطالبوا بقطعها وكذلك جل دول المواجهة ثم ان الدول الأخرى لا تريد حتى التباحث معنا حاليا مخافة إغاظة أمريكا وفرنسا بل يعتبرون انقلاب 6 اغسطس جريمة إما علنا وإما سرا وهذا ما أنتج حالة من الصدود تجاهنا –وابتسمت لتحميل الكلمة شحنة من السخرية- وكأن كل هذه الدول العزيزة علينا معنية بقضايا الديمقراطية !

التقط فخامة الرئيس الفكرة بذكاء وثاب وقال ماهو موقف دول الشرق الاوسط منكم ؟

قلت له كل دول الشرق الاوسط لا تناصبنا العداء وفيها من له معنا تعاون مفيد وهام لكن جل هذه الدول وخصوصا العربية لا يريد اتخاذ موقف يدعمنا مخافة الاصطدام بإرادة مجلس الأمن الدولي الذي شجب الانقلاب بقوة بحكم سيطرة الغربيين عليه ونحن على كل حال نطمح لإقامة شراكة إستراتيجية معهم ومع كل الدول الإسلامية وخصوصا الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات الدور القيادي والمقدرات الكبيرة وهذا قرارنا.

ابتسم محمود احمدي نجاد وقال اذا كنتم تريدون الوقوف على قدميكم فنحن مستعدون لمساعدتكم وراح يستعرض علاقات بلاده بمجمل الدول العربية وكيف وصل حجم التعاون مع سوريا مستويات خارقة للمألوف وكيف أسس مع الجزائر شبكات تصنيع وعرج على علاقاتهم بإفريقيا واهتمامه الشخصي بها ثم عاد للعرب وأكد على حبه لهم رغم الخلافات الطفيفة في وجهات النظر وثمن اتفاقيات الصداقة مع قطر والكويت وسلطنة عمان وقال ستحدث النهضة الإسلامية لو تمكنا من إرساء تحالف قوي مع المملكة العربية السعودية الشقيقة اننا نكن لها الكثير من المحبة والتقدير.

وراح يعدد فوائد الوحدة الإسلامية بمهارة ملفتة للانتباه وقد يستغرب القارئ ودية الرئيس الإيراني تجاه العرب عموما والسعودية خصوصا لكن لا غرابة عندي فعداء إيران المزمن مع الولايات المتحدة وإسرائيل يدفعها للسعي لتنقية الأجواء مع العرب قدر المستطاع .

وتعرض حديثنا لنقاط أخرى وفي ختامه وقف فخامته يوادعني بأدب جم ورافقني حتى بوابة القصر وكانت آخر أقواله قل لفخامة الرئيس انني سأكون فرحا بملاقاته لتعميق التعاون الأخوي بين الجمهوريتين الإسلاميتين.

احمدي نجاد رجل استثنائي جدا... في لبسه البسيط وكلامه الصريح ومن المعروف عنه زهده في بهارج السلطة وزخرفها حيث لا يتخطى سعر بدلة من بدلاته أربعين دولارا ولا يملك من حطام الدنيا سوى سيارة متهالكة وقديمة انه فعلا رجل عصامي يمثل جيل الشباب الثوري الذين كانوا طلابا أيام الثورة الإسلامية.

برعاية منه فتحت أمامي كل أبواب طهران وتعرفت على أهل الحل والعقد هناك وكلهم ناس من مستويات عالية جدا فهذا الوزير الأريب هو من ترجم وفيات الاعيان لابن خكان وهذا الجنرال الباسل هو من ترجم كيمياء بريكوجين وذلك البرلماني الرائع هو من نقل فلسفة هيدغر لقومه وهذا هو السفير الماهر اللماح الذي عرف الفرس عبره ميشيل فوكو.. وهكذا دواليك !

في إيران التي عرفت لم أجد أمامي مجتمعا متخلفا يستبيح المرأة فالفارسيات على الخط الأمامي في كل الجبهات وحجابهم متعدد الألوان يحمل بديع التصاوير ولسن مجموعة من الغربان السوداء كما تريد تقديمهن صحافة الغرب ... وكثيرا ما تمردت هنا وهناك خصلات رائعة على قيود التشادور الصارمة وهن عموما محتشمات ووقورات رغم جمالهن الباهر ولا زلت اذكر بولع الشاعر كبيرة مستشاري وزير الصحة الإيراني وهي تنصحني برقة ودماثة قائلة :

إذا كنتم تريدون حل مشكلة نقص الأطباء في بلادكم عليكم بتدريس الطب بلغتكم إياكم وتدريس العلم بلغة أجنبية ان الوقت الضروري للمهارة بلغة أجنبية يساوي فترة دراسة العلم نفسه وهذا سيضعكم في حلقات مفرغة يصعب معها ردم الهوة !

أنصحكم باعتماد النظام الأمريكي المبسط وإياكم ومنظومة الطبيب العام التي تستغرق وقتا كبيرا ويتم حشوها بمواد غير ضرورية ! اعتمدوا نظام ليصانص في الطب وماجستير ودكتوراه لا تضيعوا الوقت ونحن نستطيع مساعدتكم ومرافقتكم في ذلك .

أفكار الدكتورة الإيرانية المبدعة -وهي مرشحة لجائزة نوبل في علمها- نبهتني كثيرا على عبثية التنمية السطحية.. تنمية القشور ولقد أقنعتني وكيف لا وهي أستاذة فذة ومقنعة بكل المعايير!.. لذلك استصدرت دعوة لوزير الصحة الموريتاني لزيارتهم والوقوف على تجربتهم في ميدان اختصاصه.

ولقد ربطت قطاعات عديدة في الدولتين وسهلت لقاءات عمل كثيرة وكان سفير ايران في تونس يسهر على تنفيذ كل ما اشير به في هذا الصدد وحتى انسحابي من الحياة العامة في يوليو 2009

 

في ختام رحلتي الفارسية توقفت عند ضريح الإمام الخميني ووجدته في بناء ضخم مهيب يرقد تحت قبة مذهبة وعظيمة وقد نشر لي بساط احمر واصطف جنود بواسل على جنبات الضريح يرتلون نشيد خميني امام خميني امام في ايقاع جليل وفاخر... وسلموني اكليل الغار الذي تشرفت بوضعه على مرقده وأنا اقرأ ام الكتاب ترحما على ذلك القطب العارف الذي انطلق من صدر الإسلام كرصاصة سريعة وحسنة التصويب واستقر في صدر القرن العشرين !

انبثقت من رحلتي الفارسية علاقات طيبة بين البلدين وتم تبادل الزيارات بين رؤساء الجمهورية ووقعت اتفاقيات تعاون مهمة وفتحت سفارات... لكن حاجزين عرقلا التطور الطبيعي لمسلسل التطبيع الرائع بين البلدين أولهما يعنينا فليس عندنا إدارة –للأسف- بمستوى مسايرة التعاون الثنائي مع إيران أو غير إيران كما ان تعقيدات السياسة الخارجية لإيران وأزمة مشاريعها النووية ألقت بظلالها على المشهد وأصبح حكام نواكشوط يترددون كثيرا الى درجة أصبحت أتوجس فيها كمراقب من القيام بحركة غير مدروسة تؤدي إلى نسف ما تم تشييده من ثقة وتعاون.

ولقد تلقيت شخصيا بعد خروجي من الحكم والحاكمية الكثير من تعابير المودة من الإخوة في طهران رغم تجنبي للأضواء وهروبي من العلاقات الخارجية حيث أصر على سبيل المثال الدكتور مانوشهر متقي وزير خارجيتهم السابق على مهاتفتي خلال زياراته لنواكشوط والتعبير لي عن تقدير طهران لجهودي وقد توصلت بدعوات كريمة من مراكز بحث وجامعات إيرانية عديدة وهي دعوات اعتذرت عنها كلها بسبب رغبتي الخاصة في ان لا أكون عنصر توتر في العلاقات الثنائية بين البلدين حفاظا على صلات يعود لي وبكل فخار الفضل في تأسيسها.

كثيرون في هذه المنطقة من العالم يراهنون على فشل التجربة الإيرانية ويعتبرون انها استنساخ تجارب عربية سابقة ... وكثيرون يتصورون ان الحصار القوي الذي يتعرض له اقتصاد إيران سيؤدي الى تركيعها قريبا !

بل هناك من يتخيل في سذاجة معهودة ان إسرائيل قادرة على تدميرهم في ضربة استباقية وشيكة وغير ذلك من حسابات الانهزامية التقليدية.

شخصيا ارفض هذا الطرح لسببن:

منذ سنوات والغرب يهدد ويتوعد... ويبدو انه أخذ يتكيف مع ايران نووية !

ومن الثابت علميا عندي ان الفرس صاروا يمتلكون كل ما يريدون من تكنولوجيا نووية ولم يتخذوا بعد القرار السياسي بتركيب قنبلة وهو قرار ينتظر فتوى دينية ستعقبها بأيام تجربة نووية تكفي لإعادة التوازن في العقل الغربي وتجعله اقل حدة نحوهم ولذلك فمن مصلحة العرب عموما الكياسة والتكيف مع هذا الواقع الجديد بل والسعي للاستفادة القصوى من أفضال النصر الإيراني المتضح المعالم والقسمات والاستقواء به في مواجهة إسرائيل والغرب حتى لا تتحول القدرات الإيرانية إلى مجرد قدرات قطرية كما هو شأن باكستان التي ترفض لعب أي دور إقليمي أو دولي بسبب غياب الإرادة السياسية عند حكامها!

قنبلة إيران المتوقعة والمنتظرة والتي أرحب بها علنا وعلى رؤوس الأشهاد وحدها ستنهي سلام يالطا بما فيه من غبن واستكبار وانأ أثق في سلامة رؤيتي ودقتها.

السبب الثاني لرفضي لهذا الطرح مرده رفضي للمدرسة الماركنتيلية في العلاقات الدولية حيث لا أقبل الفكرة السخيفة التي تقول ان الدول المحدودة الإمكانات لا يحق لها ان تعبر عن رأيها في السياسة الدولية وعليها ان تتاجر بمواقفها وسياستها الخارجية في بورصة دولية لا أخلاقية.. فالدول سمعة ومكانة وفكرة والمتاجرة بسمعة شعب عمل حقير ومؤذ وخاسر في نهاية المطاف.

في الختام لا اجد غضاضة في مطالبة القارئ بمحاكاتي والبحث عن الحب الفارسي الرائع والنادر في زمان الكراهية والعنصرية هذا وانصحه بأن ينشد معي أبيات حافظ الشيرازي التالية لفهم لوعة العشق عندي وعنده و هو القائل:

“ألا أيها الســـاقي، أدر كأسًا وناولــها” فإني هائم وجــدًا، فلا تمسك وعجّلهــا

وشيخي عارفٌ يـدري رسوم الدار فاتبعني وخذ سجادة التقوى بماء الكرم فاغسلها

وأمري ساء من حبّي لنفسي، والورى يدري بســرٍّ كنت أخفيه ونفـسٍ لم أبدّلهـــا

إذا مــا شئت لقياه تذكّـر مثلي... متى ما تلق من تهوى، دع الدنيا وأهملها”