صبحي غندور\ هذا التوصيف المذهبي للصراعات السياسية

سبت, 2016-04-16 01:32

المنطقة العربية مهدّدةٌ الآن بمشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربي لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرّف الديني العنفي يساهم بتحقيق المشروعين معاً في ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.

ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هي بواقعها وأهدافها سياسية محض، وهذا ما يجري عادةً في الحروب الأهلية التي تُسخّر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. فالفاعل الآن في الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية وإثنية. فصحيحٌ أنّ هناك خلافاتٍ عديدة بين إيران وبعض دول الخليج العربي، لكن ما المصلحة العربية والإسلامية من توصيف هذه الخلافات بأسماء مذهبية أو قومية؟! ولماذا يسعى الكثير من العرب والمسلمين لنزع الصفة العربية والإسلامية عن جماعات التطرّف والإرهاب، بينما لا يجدون مشكلة في تعميم التسمية الطائفية أو المذهبية على أي خلاف مع فريق سياسي محلّي أو بلد عربي أو إسلامي مجاور.

إنّ المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحقّ الأوطان العربية كلّها، بما فيها الشعوب والحكومات والمكوّنات الاجتماعية فيها. فضحايا العنف المسلّح الجاري الآن عربياً، من أيِّ جهةٍ كان مصدر هذا العنف، هم من أوطان ومناطق وأديان ومذاهب مختلفة.

إنّ تنظيم “داعش” مثلاً، ينتعش ويستفيد من هذه التوصيفات المذهبية لصراعات سياسية محلّية أو إقليمية، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً – ولو عن غير قصد – مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى “عدوّهم” الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى، ممّا يساهم في إعطاء الأعذار لوجود “داعش” ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها.

طبعاً، فإنّ الأحاديث الطائفية والمذهبية تزيد الشروخ الدينية والوطنية ولا تبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، ترفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالمواجهة مع جماعات “التطرّف العنفي” تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتّى يمكن محاصرة هذه الجماعات وتجفيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.

في الدول الغربية، ما زال الكثيرون يُحمّلون الإسلام كدين مسؤولية وجود جماعات التطرّف العنفي التي تعمل بأسماء مختلفة؛ منها “القاعدة” المنتشرة عالمياً، و”بوكو حرام” في نيجيريا، وحركة “الشباب” في الصومال، وصولاً الآن إلى جماعات “داعش”، وغيرها العديد من الأسماء العاملة تحت رايات “إسلامية” في آسيا وإفريقيا، وبعضها يتحرّك في نطاق محلّي فقط، لكن البعض الآخر له امتدادات دولية تصل إلى أماكن مختلفة في العالم.

فخطر جماعات التطرّف العنفي بأسماء “إسلامية” موجودٌ فعلاً ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي “صناعة خارجية” يتمّ الآن توظيفها. فالمشكلة الأساس هي بوجود بيئة مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع وعمّن يحصد “الثمرات” لاحقاً. فلو كانت “الأرض الفكرية” لهذه الجماعات قاحلة ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرعٍ خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع!. ولو لم يكن هناك فراغ فكري للمفهوم الصحيح للدين وللمواطنة، لما أمكن استقطاب هذا الحجم من أتباع هذه الجماعات.

فالمشكلة الآن هي لدى من يواجه ظاهرة “داعش” كجماعة إرهابية، ويرفض معالجة أسباب انتشارها في بعض المناطق. وهي أيضاً مشكلة لدى من يراهنون على “داعش” لتوظيف أعمالها لصالح أجندات محلية أو إقليمية خاصّة، بينما هم لاحقاً ضحايا لهذه الأعمال، وسيحترقون أيضاً بنيرانها.

تساؤلاتٌ عديدة ما زالت بلا إجاباتٍ واضحة تتعلّق بنشأة جماعة “داعش” وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف!. ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية الأصلية “داعش”، والتي هي اختصارٌ لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، أليس ملفتاً للانتباه أنّ العراق ودول “بلاد الشام” هي التي تقوم على تنوّع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعةٍ عربية أو إسلامية أخرى في العالم؟! ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة ل”دولة إسرائيل” التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها ك”دولة يهودية”؟! ثمّ أيضاً، أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلاتٍ طائفية وإثنية، فتكون إسرائيل “الدولة الدينية اليهودية” هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!. ثمّ أليس سؤالاً مهماً كيف أنّ “داعش” مارست الإرهاب والقتل على مسلمين ومسيحيين؛ على الشرق الروسي، على الغرب الأوروبي والأميركي، على العرب وغير العرب، بينما لم تحدث حتّى الآن أي عمليات “داعشية” في إسرائيل أو ضدّ إسرائيليين؟!.

حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية وإسلامية لتجارب معاصرة في العقود الأربعة الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطرافٍ أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود. ألم تكن تلك محصّلة تجربة “العرب الأفغان”، خلال الحرب على الشيوعية في أفغانستان، حيث كانت نواة “القاعدة” تولَد هناك؟! ثمّ ألم يكن ذلك درس دعم نظام صدام حسين في حربه على إيران حيث انقضّ على الكويت فور انتهاء الحرب، وهددّ السعودية ودولاً خليجية أخرى؟! وهو درسٌ يتعلّمه الآن أيضاً مَن راهن في سوريا والعراق على جماعات “النصرة” و”داعش”، فإذا بالبلدين، نتيجة هذه المراهنة الخاطئة، يدفعان الثمن غالياً.

فقط إسرائيل هي التي تحصد نتائج صراع القوى الإقليمية العربية والإسلامية، والذي ينحدر أكثر الآن نحو مستنقع الطائفية والمذهبية بأبشع صوره. فالعرب والمسلمون الآن إلى مصيرٍ مجهول، وقد تشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مائة عام من رسم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما العرب منشغولون بأنفسهم وبخلافاتهم.

إنّ تراجع “الهُويّة العربية المشتركة” أدّى إلى تفكّك مفهوم “الهُويّة الوطنية” وإلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية، ومن ثمّ حدثت حالات الانفجار الداخلي في أكثر من بلدٍ عربي، وبذا تصبح “العروبة” لا مجرّد أساس لبناء مستقبل عربي أفضل، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي، إذ عندما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية وتؤدّي إلى تدويل وصهينة المنطقة كلّها.

وإذا لم يستطع العرب وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي وأفرعته الدولية والمحلّية!.

*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

[email protected]