استحقاقات “شرق أوسطيّة” أمام إدارة أوباما

خميس, 2015-07-30 13:38

هناك توقّعات الآن بحدوث تحرّك دبلوماسي أميركي مميّز ستقوم به إدارة أوباما لإيجاد تسوياتٍ سياسية لأزماتٍ مهمّة في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن انجزت هذه الإدارة الاتفاق الدولي حول الملف النووي الإيراني. وستكون الأزمة الدموية في سوريا والمواجهة مع “داعش” في مقدّمة أولويّات أجندة إدارة أوباما خلال الأشهر القادمة، إضافةً إلى تثبيت وتسويق الاتفاق الذي حصل مع إيران، داخل الولايات المتحدة ومع حلفاء أميركا في المنطقة.

طبعاً، هناك تلازم وتفاعل بين كل الأزمات المشتعلة الآن في “الشرق الأوسط”، وحلُّ أيٍّ منها سيساعد على الحلول للأزمات الأخرى، لكن من المهمّ أن يسبق التحرّك الأميركي الجاد بشأنها تفاهمات مع موسكو وطهران حول آفاق التسويات وسبل تحقيقها. لذلك كانت أهمّية الاتفاق الأميركي/الروسي حول الملف النووي الإيراني، بمثابة المدخل لتفاهمات ممكنة حول أزمات المنطقة.

لكن مشكلة الرئيس أوباما في أجندته الشرق أوسطية، هي ليست مع خصومه الدوليين بل مع أقرب حلفائه الآن، حيث وجدنا اعتراضاتٍ علنية قاسية على هذه الأجندة من إسرائيل ومن يدعمونها في الداخل الأميركي.

ورغم أهمّية التحفظّات السعودية على المفاوضات التي جرت مع إيران، فإنّ الأشد خطورة على إستراتجية التحرّك الدبلوماسي الأميركي الآن مصدره إسرائيل، وما لديها من نفوذ سياسي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا.

وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، حتّى قبل حصول أي اجتماع أو اتفاق، إذ أنّ إسرائيل ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!.

إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جداً لكل الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير حروب عربية داخلية بأسماء وحجج مختلفة، تؤدي إلى صراعات طائفية ومذهبية وقبلية ينتج عنها تفتيت الكيانات العربية الراهنة، وإنهاك وإنهاء حركات المقاومة ضدّها في فلسطين ولبنان، وتدمير الجيوش العربية الكبرى في المنطقة، والوصول لإقامة تطبيع سياسي وأمني مع كل الأطراف العربية التي تقبل السير في المحور الإسرائيلي المنشود.

كذلك راهنت حكومة نتنياهو على أنّ الحرب ضدّ إيران والتصعيد الدولي والإقليمي ضدّها سيوجِد لإسرائيل أدواراً كبيرة سياسياً وأمنياً في عموم المنطقة ومعظم دول العالم الإسلامي، وسيجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض “شرق أوسطي جديد” يسمح لها بتحقيق مشاريع اقتصادية متعدّدة تشمل بناء قناة بديلة لقناة السويس، تصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، إضافةً إلى استثمار منابع النفط والغاز في الشاطئ الشرقي للمتوسط، وإقامة أنابيب للنفط والغاز من منطقة الخليج إلى الشواطئ الإسرائيلية، وما يمكن أيضاً أن تستثمره التكنولوجيا الإسرائيلية في البلدان المجاورة التي ستحتاج إلى الكثير من مشاريع الإعمار بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.

ما سبق ذكره ليس من صنع الخيال، ولا هو بافتراءاتٍ على ما تريده إسرائيل في هذه المرحلة، بل هو واقعٌ حاصل على الأرض منذ سنوات. فإسرائيل لن تخضع الآن للمطالبة الأميركية والدولية بوقف الاستيطان، ولن تقبل حتماً بتقسيم القدس ولا بحلّ قضية اللاجئيين ولا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام 1967، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض بشأنها بين الفلسطينيين والإسرائيليين بضغطٍ أميركي.

ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً في وقف نزيف الدم السوري، وفي إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري وتعيد بناء الدولة السورية على أسس سليمة، بينما يؤدّي استمرار هذه الأزمة إلى انهيار كلَّ المشرق العربي وحركات المقاومة فيه.

إذن، هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين الإسترايجية الإسرائيلية وبين أجندة إدارة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، تماماً كما فعل الجنرال دوايت أيزنهاور حينما كان رئيساً للولايات المتحدة بوقوفه ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر في العام 1956، وأيضاً كما كان بعده الرئيس جون كنيدي، والذي بعد اغتياله قدّم نائبه جونسون أقصى درجات الدعم لإسرائيل وأدخل أميركا في حربٍ دامية بفيتنام.

ولعلّ من النتائج السياسية المهمة التي تحدث الآن في الولايات المتحدة ولا تأخذ أهميتها الإعلامية الكبيرة، هو هذا الفرز الذي يحصل في أميركا، بعد توقيع الاتفاق مع إيران، بين المدافعين عن المصالح الأميركية وبين الذين ينشدون مصالح إسرائيل أولاً.

وسيكون من الصعب التنبؤ بمصير “أجندة أوباما” الشرق أوسطية قبل انتهاء ولايته في مطلع العام 2017، لكن ما حدث من ردود فعلٍ أميركية ودولية مؤيّدة حتّى الآن للاتفاق الخاص بالملف النووي الإيراني، وما هو موجود من مناخٍ أميركيٍ شعبيٍ رافضٍ أيضاً لأي تورّط عسكري أميركي جديد في العالم، وما يرافق ذلك من متغيّرات سياسية إيجابية هامّة في إيران لصالح تيّار إصلاحي، هو كلّه مزيجٌ مهمّ لإنجاح مراحل “الأجندة الأوبامية”، والتي ستكون أمامها عقبات كثيرة، بعضها خرج للعلن الآن، لكن يبقى الأساس في ضرورة مصارحة الرأي العام الأميركي بما هو يجهله من حجم التباين الحاصل بين المصالح الأميركية وبين الرؤى الإسرائيلية، التي لا يخفى أيضاً حجم مسؤوليتها عن تراجع موقع الولايات المتحدة نتيجة تأثيراتها السلبية في الإدارة السابقة وحروبها الفاشلة. فإسرائيل هي اليوم عبء مالي وسياسي كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين الإسلامي والعربي.

إنّ إدارة أوباما معنيّة أيضاً بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وحتماً فإنّ الملفّ الفلسطيني هو أساس مهمّ في هذه الصراعات رغم التهميش الحاصل الآن للقضية الفلسطينية. فالتشويه الطائفي والمذهبي يحصل حالياً للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن الصديق، وفي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!

ونعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محاور تتصارع الآن في منطقة الشرق الأوسط. لكن ما الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد؟ المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية السابقة التي وضعت غزو العراق، منذ مطلع العام 2001، في قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية في أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي، بعدما كانت الأولوّية هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة جورج بوش الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة كلينتون حتى آخر شهر من وجوده في “البيت الأبيض”.

فغياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته. وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي. وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل بشؤونه وتحويل أرضه إلى ساحة صراعات ..

صبحي غندور *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

[email protected]