ثمّة رأي، هو “رأيٌ ثالث”، لا يجد له متّسعاً كبيراً في التداول السياسي والإعلامي العربي، رأيٌ يرفض “الثنائية الاستقطابية” الحاصلة في كثيرٍ من الأزمات التي تعصف بالمنطقة العربية. ففي معظم البلاد العربية، يجري الآن استقطابٌ حاد لتصنيف المواقف، إمّا مع هذا الطرف أو مع الطرف المخاصم له، تماماً كالشعار الذي أطلقته إدارة جورج بوش الابن بأنّ “من ليس معنا فهو ضدّنا”. وهذا ما ينطبق حاليّاً على الصراعات الجارية في سوريا والعراق واليمن، وعلى غيرها من الدول التي تشهد أزماتٍ أمنية وسياسية، حيث يُسارع البعض لوضع أيِّ نقدٍ لطرفٍ ما في خانة “العدوّ” المتمثّل بالطرف الآخر!.
خطورة نتائج هذا الأمر أنّها تمنع أيَّ فرصٍ لوقف حدّة الصراعات أو لإيجاد مشاريع تسوية لها، كما أنّها لا تتوافق مع حقائق ووقائع الصراعات، حيث هناك دائماً تضخيمٌ أو تقليلٌ يحدث من هذا الطرف أو خصمه لعناصر عديدة مرتبطة بهذه الأزمات.
العالم كلّه عاش في منتصف القرن العشرين هذه “الثنائية الاستقطابية” على المستوى الدولي، بين “شرق شيوعي” و”غرب راسمالي”، ممّا فرض على مجموعة كبيرة من دول “العالم الثالث” أن تشكّل مجموعة “عدم الانحياز″ بزعامة ناصر ونهرو وتيتو، والتي أقامت “نموذجاً ثالثاً” في بلدانها في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، ولم تقبل بالانحياز الكامل لمعسكرٍ ضدّ الآخر.
وهذه “الثنائية الاستقطابية” الدولية كانت أيضاً على مستوى الأفكار والعقائد، فإمّا “اليمين” أو “اليسار”!، وكانت على مستوى المواقف السياسية من أزماتٍ وحروب، فإمّا “دعم نظام صدام حسين” أو “دعم الاحتلال الأميركي للعراق”!، والحال انطبق أيضاً على ما حدث ويحدث في ليبيا وسوريا واليمن، وعلى الخلاف الحاصل بين بعض الدول العربية وكلٍّ من إيران وتركيا. والتصنيف “الثنائي” رافق أيضاً ظاهرة الحراك الشعبي العربي الذي بدأ منذ أربع سنوات، حيث اعتبره البعض “ثورات شعبية فقط” بينما نظر إليه البعض الآخر على أنّه “مؤامرات خارجية فقط”!. وكان “الرأي الثالث” يؤكّد – وما يزال- على حقّ الشعوب في التحرّك من أجل الحدّ من الاستبداد والفساد، لكن دون إغفالٍ لما يحدث أيضاً من محاولاتٍ إقليمية ودولية لتوظيف هذا الحراك الشعبي وتحريفه وجعله يخدم مخطّطات ومشاريع سبق وجودُها هذا الحراكَ الشعبي بسنوات.
فليس ب”ربيعٍ عربيٍّ” فعلاً ما تشهده المنطقة العربية، بل هو انتقالٌ من زمن الاستبداد والفساد إلى زمن التبعية والحروب الأهلية! وكلاهما زمنُ انحطاطٍ وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية منذ انتهاء حقبة “الخلفاء الراشدين”، فبعدها غاب الرشد عن الحاكم والمحكوم، إلا في فتراتٍ عابرة لم تصمد طويلاً أمام جشع جماعات الفساد في الداخل، وقوى التآمر من الخارج.
لقد تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. فنَعَم أنظمة الاستبداد والفساد مسؤولةٌ عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغيّر ذلك الآن من النتائج الحاصلة على الأرض، حيث هيمنت الجماعات الدينية المتطرفة على المعارضات السياسية المسلّحة؟!. وللأسف، هناك عرب ومسلمون يقومون الآن بخوض “معارك إسرائيليّة” تحت “رايات وطنيّة أو عربيّة أو إسلاميّة”. وهم عمليّاً يحقّقون ما كان يندرج في خانة “المشاريع الإسرائيليّة” للمنطقة، من تقسيمٍ طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئات تستفيد من فتات الأوطان، فتقيم ممالكها الفئويّة الخاصّة ولو على بحرٍ من الدّماء. أليس هو مشروعٌ إسرائيليٌّ تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلاتٍ متناحرة؟ أمَا هي مصلحةٌ إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى وما زال يجري الآن في العراق وسوريا واليمن وليبيا من هدمٍ للوحدة الوطنية في هذه الدول، ومن انشغالٍ كامل عن الصراع الأساسي مع إسرائيل؟!
أليس هو بمنظرٍ خلاّب ممتع للحاكمين في إسرائيل وهم يرقبون ما يحدث في المنطقة العربية من دعوات للفتنة المذهبية، ومن تشويه لدور ظواهر المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ومن تسعير لحملات الخصومة بين العرب وجوارهم الإسلامي، ومن تهجير متعمّد للمسيحييين العرب، ومن تصعيد حاصل في الغرب لدرجة الكراهية والخوف من العرب والمسلمين بسبب ممارسات جماعات التطرّف الإرهابية؟!.
وللأسف أيضاً، ما زالت شعوبنا العربية، والتي أرضها هي أرضُ الرسالات والرسل، ومهد الحضارات والعلوم، تعيش أسيرةً لمفاهيم متخلّفة ومعاكسة لجوهر ما جاء على أرضها من هدايةٍ وعلمٍ ومعرفة، وما زالت هذه الشعوب تكرّر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها في عهودٍ سابقة، تحت قياداتٍ سالفة. فأساس الخلل الراهن في الأمَّة العربية كلّها هو في فشل المفكّرين والسياسيين وعلماء الدين بالحفاظ على الظاهرة الصحية بالتنوع الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ بمعظمها في أطر فئوية ترى “عدوّها” في المواطن الآخر في ربوع الوطن الواحد.
فاليوم، نتعايش مع إعلام عربي ومع طروحات دينية وفكرية وسياسية لا تخجل من تحديد المواقف على حسب الطوائف والمذاهب، وهذا يُعبّر عن مستوى الانحطاط والانقسام الحاصل الآن بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنة الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعف الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي.
لكن، هل وصل العرب إلى قعر المنحدر أمْ أنّ أزمات المنطقة ما زالت حبلى بما هو أسوأ وبمنحدرٍ أعمق ممّا همُ العربُ عليه الآن؟! وكيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان، وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع! وكيف تستطيع أمّةٌ أن تنهض ممّا هي عليه من سوء حال إذا كان العديد من صانعي الرأي والفكر والفقه فيها يتنافسون على الفضائيات وعلى المنابر فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحدار والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!؟
قد يسير بعض بلدان هذه الأمَّة نحو الأسوأ والأعظم من الصراعات والانقسامات، وقد تتهدّد وحدة أوطان وكيانات، وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب وطنياً وشعبياً، وتداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، وانعدام تضامن حكوماتهم، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي تسير عليه بلدان هذه الأمَّة على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها وحركاتها السياسية.
إنَّ الأوْلى الآن عربيّاً التحرّك الشامل لوقف الفتنة ونزيف الدم العربي بدلاً من لوم هذا الطرف أو ذاك. فالفتنة كانت مطلوبةً في البلاد العربية قبل تطوّرات الأوضاع الأخيرة، والفتنة مطلوبة الآن خلالها وبعدها. الفتنة بين العرب كلّهم، بين طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم المتعددة. فتنة تُحطّم وحدة الكيانات والشعوب، وتنهي أيَّ مقاومةٍ لأيِّ احتلال، وتجعل العدوّ هو المواطن العربي الآخر. والمسؤولية هنا تشمل العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وفي كلّ بقعةٍ بالعالم يعيش عليها أبناء البلدان العربية.
المسؤولية تبدأ عند كلّ فردٍ عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه. وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة وأين تبدأ حدود المواطنة المشتركة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما حتّى من الوجود على أرضه.
صبحي غندور *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.