"كباسط يديه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه"
بقلم: الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا رئيس حزب " التجمع من أجل موريتانيا ـ تمام"
إلى الشعب الموريتاني الأبي، المجاهد على مر القرون ضد غوائل الطبيعة ومخالب الظلم و عرصات التخلف ، الرافض للذل و الاستكانة، الغيور على الكرامة والدين، ضحية قهر الأحكام الاستبدادية الفاسدة، إليك أهدي هذه الخواطر في وقت يعيش فيه البلدأعتى و أخطر حلقة من مسلسل الأزمات الذي ولد على سكته و لا يزال يتخبط فوقها. مساهمة أتحسر فيها على حقيقة ضيعناها و أمانة أتلفناها و فرص فوتناها و واجبات تجاه الوطن ما راعيناها و لُحمة وطنية مزقناها، ففشلنا جزاء وفاقا، في إقامة الدولة. و هي كذلك دعوة لتفكير جماعي للبحث عن مكامن الخلل في بنيتنا و أسلك المنافذ للخروج من حضيضنا. لا بد لنا سبيلا إلى ذلك من الاعتراف بواقعنا دون خجل و لا وجل و الغوص جميعا في أعماق غيابات جب إنسانيتنا و ضميرنا و تاريخنا المضمر منه و المعلن و الكلام الصريح و الصادق عن حاضرنا المضطرب و مستقبلنا المبهم. يستوجب منا ذلك قليلا من الشجاعة لقول الحقيقة.
إن قول الحقيقة وحده هو البلسم الشافي و الترياق القادر على أن يبصرنا بنواقصنا كي نكملها و أخطائنا كي نصلحها و أمراضنا كي نعالجها . فإن سياسة الكذب و الخديعة و المغالطات و النفاق و تشويه الحقائق و ردم الرأس في التراب، كلها أمراض مدمرة لأمم و رذيلة مخزية لم تكن في أسلافنا، هي التي أودت بنا طيلة العهود الماضية إلى الارتكاس و ظلت تقضي على كل المحاولات الجادة للإصلاح، لتعيدنا كل مرة إلى المربع الأول و إلى ما قبل التاريخ، " كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه".
لا شك أن أبرز ملاحظة في تاريخ بلدنا تبقى استعصاء قيام الدولة المركزية فوق هذه الرقعة الجغرافية، "بلاد شنقيط" المباركة الخالدة، التي أطلق عليها الحاكم الفرنسي "كبولاني" شططا و استلابا لقب "موريتانيا". والكل يدرك المغزى الخبيث لهذه التسمية. لا نستغرب ذلك من الحاكم الفرنسي بقدر ما نستغرب تمسك القائمين على عملية الاستقلال بهذا اللقب المشين الذي يرمز إلى حقبة حالكة من ماضي هذه المنطقة ما قبل التاريخ. لم يشغلنا "فقدان الدولة" بقدر ما شغل كبار علماء البلاد و رجالاتها في القرون الماضية. المؤسسون أنفسهم عانوا من هذه الوضعية. نلمس ذلك كإحساس اجتماعي، و كانبثاق فكري، و حدس سياسي في تصرفات و أقوال و كتب و فتاوى القدماء.
كثيرا ما أسمع خلال محادثات بعض الأخلاء من رموز النخبة الوطنية تساؤلا حول الخلل و السبب الجوهري الذي حال عبر حقب التاريخ دون قيام دولة على هذه الربوع الشنقيطية.
إن مرد هذا السؤال و مصدر الإلحاح هنا هو بالتأكيد الوضع الراهن في البلاد ثم عجز الكيان المجتمعي عن إقامة دولة بعد أكثر من خمسين سنة، تاريخ الاستقلال الاسمي الذي منحته فرنسا لهذا المنتبذ، خلافا لرغبة و إصرار غالبية الموريتانيين حينها في البقاء تحت المظلة الاستعمارية.
مع أن جذوة السؤال تتضح أكثر كلما كان المنتبذ تحت رياح حركات اجتماعية أو أهلية أو إقليمية. كان أحرى بهذا الاستشكال أن يناقش في حرم الجامعات و بين أساتذة التاريخ والفكر السياسي، لعله يجد أجوبة شافية و مقنعة. و لما لم يحدث ذلك، فقد تم تناوله بحسب علمي، على صعيد فردي في أكثر من مناسبة، فكان موضوعا لمعالجات عميقة، لعل آخرها ما طرقه الأستاذ محمد يحظيه ولد بريد الليل. إن الإجابة على سؤال أسباب "غياب الدولة" أي الفشل في وجود دولة كيانية غير اسمية كسلطة وأمر قائم، رغم تعاقب عارضي الأزياء من عسكر ومدنيين على ما يسمى مجازا كرسي الحكم، ليس أمرا سهلا كما يتصور ذوو الإجابات الجاهزة، و لا يفسر بطريقة رياضية، إذ لا توجد مسلمات تاريخية و لا نماذج تتطابق مع واقع المنتبذ القصي حتى تكون بوصلة يُهتدي بها في معالجة الخلل الذي ذكرناه..
لذلك لا بدّ من إدراك أن السائر في هذا الميدان ليست لديه طرق معبدة، وليس في أرضية تسمح بالسير دون اختلال التوازن.
لماذا يرحل المرابطون بأول مشروع دولة في هذا المنتبذ إلى الأندلس لتثبيت الحكم العربي الإسلامي هناك، قبل أن يستقر حكمهم بشكل لافت في المغرب، ولماذا لم يُقدم "أولاد أمبارك" على إقامة دولة رغم النزوح الكبير الذي قاموا به جنوبا، حسب الأستاذ ولد بريد الليل؟ و ما مرد فشل الدعوات خلال القرون الماضية لقيام الدولة (دعوة العلامة الصالح الشيخ محمد الشيخ ولد محمد المامي و مشروع الإمام نصر الدين) ؟ لا يمكن أن يعود ذلك إلى حمولة الجغرافيا وحدها، لأن هذه الأخيرة تشارك التاريخ صنع الأحداث. بل يعود إلى خلل هيكلي في المجتمع الذي نزح من الشمال إلى هذه القفار ليخترق مسلمات كانت قائمة. إن نزوح هذه القبائل العربية إلى "البلاد السائبة"، حيث لا نظام ولا دولة، وإنما "كانتونات" عرقية أو دينية أو مجتمعية مغلقة وفق الظرف الذي ولدت فيه، زاد من خلخلة المجتمع الذي تحول من هيكلة إلى أخرى لكن في نفس الدائرة العبثية التي لم تعن بأي حال من الأحوال وجود استقرار مؤسسي.
اتسمت هذه القبائل على الأغلب الأعم بأنها قبائل سلاح غير بدائي بمفهوم زمن الهجرة، و يُفترض دائما أن القوة المسلحة تُقيم الدولة إن لم تكن نتاجا لها.. الحالة الشاذة هنا أن قوة السلاح والرجال التي نتحدث عنها في المرجعيات الموثقة و المرويات، لم تسع لإقامة دولة، واكتفت باستعراضات فروسية وحروب بينية قبائلية و شرائحية. فالسلاح حافظ على روح ريفية، بدل السعي لبناء دولة، والغريب أيضا أن الوافدين نقلوا العلم والحضارة العربية إلى البادية، بدل المدينة، "ليقيموا حضارة على ظهور العيس".
وهكذا يجمع المؤرخون أن البادية الموريتانية هي البادية العالمة الوحيدة في تاريخ البشرية.
هذا الموضوع طرقه المفكر البارز أخي الأستاذ محمد ولد أحظانا الذي كتب الكثير حول مفارقة البادية الموريتانية العالمة.
الموريتانيون خالفوا من جملة ما خالفوا من القواعد الجامعة مضمون الآية الكريمة (وجاء بكم من البدو). قالها يوسف عليه السلام شكرا لله، معتبرا النزوح من البدو إلى الحضر نعمة ربانية كنعمة الخروج من السجن، وجب التحدث بها شكرا: " و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو".
لا يجب أن نبتعد كثيرا عن الواقع الراهن، وإن كان هذه المرة من زاوية الجوار. ببساطة متناهية لا توجد في المحيط المجاور جنوبا دول، بمعنى دولة مركزية، ذات أسس مؤسساتية. فدكار وباماكو وانجامينا.. وغيرها ما تزال بلديات ريفية تدار من قبل القوة الاستعمارية، رغم التراجع المظهري لسطوة ما بات يعرف ب "فرانس ـ أفريك" و الذي كان من تجليات استمراره الواضحة التدخل الفرنسي بمالي دون قرار سيادي للدولة المالية، التي كان المجند "سنوغو" قد استولى على حكمها وقتها.. لكن هذه الدول محظوظة بمجتمع سلمي، وبنمط اجتماعي يعتبر الفرد فيه هو الأقل تكاليفا في المعيشة والمطالب.
في نواكشوط يظهر الوضع أكثر سوء، فهذا الفضاء الجغرافي هو أحد أغنى مناطق الساحل بشتى الثروات المعدنية و غيرها.. أكثر من 900 مليار أوقية هي دخل الدولة لسنة 2009 و 1350 مليار لسنة 2013. دولة لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين و النصف نسمة ، ومع ذلك، بفعل غياب الوعي المجتمعي والمدني و سوء الحكامة و التسيير، و فساد و جشع الحكام و محدوديتهم الثقافية و المعرفية و الفكرية ، يعيش غالبية السكان بشكل مستمر تحت رحمة المجاعة والأوبئة وغياب التعليم والصحة..
هذا في ظل فقدان المدن، إذ لا تتوفر البلاد على أي مدينة بحمولة هذا الاسم.. العاصمة عبارة عن قرية من أعرشة و بيوتات ريفية عشوائية، تغشاها القمامة و تتخللها المستنقعات و البرك الآسنة، حيث يتكاثر البعوض و شتى أنواع الطفيليات و الجراثيم الفتاكة. وقد استغرق المجتمع ستين عاما ليبني عمارتين بأقل من عشر طوابق..! ناهيك عن الفراغ الهائل في المنشئات والبنية التحتية. فمثلما دخلت موريتانيا تحت مظلة الاستعمار، خرجت بنفس الهيكل المجتمعي المتصادم، المصدوم والمنهك. وبعد الاستقلال تواصلت مسيرة "الغموض" تضرب بأكنافها و أعاصيرها الجسم الهش للدولة الوليدة التي قامت بأعجوبة و التي يتفنن كل منا في التقاط الصورة التي تعجبه عنها.
البعض تصورها "شاة بفيفاء" و "بقرة حلوبا"، لا تتجاوز دولة هياكل وإسعافات ومذابح للقانون والمنطقية المدنية. ثلة، وهي الأقلية، تعاملت بفوقية مع هذا الكيان، فلم تر فيه غير نظم محددة، وتصورت أنها شكل قابل للحياة والتطور مع مرور الزمن. لكن الخلل ظل يتسع رغم منح الفرص الزمنية لإحداث التطور المنشود. أما البعض الآخر، فتعامل مع "هذه الدولة" كأي شيء غير موجود، فواصل الحياة بنمطية غريزية بدائية، حتى أنه يفضل مصلحته في بئر على مصلحة جماعية.
ولم ير آخرون في هذا الكيان سوى استراحة حياة أو تقديم خدمة فكرية أو سياسية لتيار معين أو دولة أخرى من خارج الحدود. ( بعثيون عراقيون، بعثيون سوريون، ناصريون، قذافيون، إسلاميون، وهابيون، شيغة ، كادحون ماوويون، فرنكفونيون...ألخ. عند التفحص جيدا في الصور أعلاه يتضح أن الموريتانيين، إلا من رحم ربك، كانوا في حقيقة تعاملهم مع البلد "سفراء" مقيمين وليسوا مواطنين مالكين. إذ كل "سفير" في هذا البلد يخدم نفسه ومرجعيته بالشكل الذي يلبي طلبه دون أن يهمه مستقبل البلد، لأن مهمة السفير عندما تنتهي لا يكون هناك داع للقلق و الالتفات إلى الوراء.
إنها "دولة السفراء". دون غضب، أو عتب نقول إن سكان موريتانيا البالغ عددهم أزيد من ثلاثة ملايين نسمة هم سفراء في بلدهم لأغراض آنية أو شخصية، أو خارجية ولائية. انطبق هذا على الجميع دون أن يشعروا بذلك..
فالولاء للدولة لم يكن حتى من ضمن اهتمام أغلب حكام البلد طيلة الأربع و خمسين سنة الماضية، أحرى المواطنين الذين ولدوا في "الهواء الطلق" واهتموا بعلاقتهم مع المناخ القاسي أكثر من اهتمامهم بعلاقتهم مع مرجعية الدولة المركزية التي هي مفهوم غريب على ثقافتهم، دخيل على قاموسهم. إن استعراضا وجيزا لتاريخ البلاد منذ استقلالها يكشف بما لا يدع مجالا للشك أن عقودا من الزمن لشعبنا يمكن أن يقال إنها ضاعت سدى وكنا أحوج ما نكون إليها في إقامة دولة حديثة وتنمية مستديمة لأمة عريقة تنام على ثروات طبيعية متنوعة تكفي واحدة منها لرفاهية شعب أكثر منا عددا وأشد منا تعقدا. (و لا ننسى أن ساكنة موريتانيا برمتها لا تشكل سوى حي من أحياء القاهرة أو الدار اليضاء أو لايكوس...!) لكن البلاد ظلت تتجه نحو تسميتها البرزخية حتى احتجبت عن غالبية شعبها كل أمنيات الازدهار و الرفاه المشروع وتبدل الألق العلمي والثقافي وحلت محلهما صورة بلد متسول و متخلف، تتقاذفه الأنظمة الاستبدادية منذ الاستعمار دون رحمة من مجهول إلى مجهول.. وكانت كل محاولة للوقوف في وجه هذه التراجيديا الوطنية يُعتبر صاحبها خائنا ومتآمرا على وطنه، ولا يجد ما يدعم ظهره غير جدران السجون وسياط الجلادين. وظلت جماعات الفساد والفوضى تتلاعب بقيم و ممتلكات الشعب وحرياته دون رحمة ودون أدنى مقدار من الوطنية بل ومن الحياء والشهامة والأخلاق الإنسانية، فاستغنى من استغنى واستقوى من استقوى لا على جماجم الشعب ومصالحه الجوهرية فحسب، وإنما على حساب سلمه الاجتماعي و مستقبله البعيد، وهكذا أصحبنا أمام الصورة التالية: فقر مدقع لغالبية الشعب، غياب تام لمعنى الدولة، حريات مصادرة وقمع وسجون وأبواب مغلقة في وجه الإرادات الوطنية الصادقة، ونهب للمال العام.. باختصار عدنا إلى صفة أخرى و اسم آخر من أسماء هذه البلاد، فعشنا "السيبة" بما تحمله الكلمة من معنى بل و أقسى مما يتصور الجميع. لقد انتهت كل المحاولات التي استهدفت الإصلاح في هذا البلد منذ 54 سنة إلى عكس ما أريد منها وما أعلن و وصلت حركات التغيير بالقوة إلى طريق مسدود أمام مافيا الفساد.. وكان كل انقلاب يعلن أن هدفه القضاء على المفسدين لكن في النهاية لا يوجد هؤلاء المفسدون بين الضحايا. يتوارون عن الأنظار هنيهة ليعيدوا الكرة متى بدت سانحة . وهو أمر مريب ويحمل أكثر من دلالة ومعنى.. فأين الخلل؟ النتيجة بعد 54 سنة من الاستقلال هي 9 محاولات انقلابية، بينها 5 "ناجحة"، وأنظمة استثنائية، وتهديد حقيقي لكيان "الدولة"، نتيجةَ تشتت سياسي واجتماعي و تشظي عرقي و فئوي غير مسبوق، يطبعه التدابر و الكراهية و فقدان الثقة في الدولة و في ما بين المكونات القبلية و الشرائح الاجتماعية التي أصبح بعضها لا يجد غضاضة و لا خجلا في تجاوز كل الخطوط الحمراء، ملحا في طلب الانفصال، بينما يهدد آخرون بشن حرب أهلية لاستئصال جنس "البيظان" ثأرا و انتقاما. لقد وضعتنا الهزات المتتالية طيلة العقود الخمسة الماضية أمام صورة رقمية للبلاد هي على النحو التالي: من حيث السكان والاقتصاد هناك: 3.5 مليون نسمة، تبلغ نسبة الأمية 55%، والفقر الشديد 46%، والفقر بمختلف أشكاله 75%. فيما لا تتجاوز تغطية الخدمات الصحية بصورة فعلية نسبة 5%، وخدمات التعليم 14%، و وسائل الإعلام 2%، والبنية التحتية بصفة عامة لا تتجاوز 7% من احتياجات البلاد. نسبة الولوج إلى الماء الصالح للشرب 20%. و إلى الكهرباء 12%. بينما يصل تردي خدمات النقل إلى مستوى 80%. و وصل مؤشر الفساد إلى الاستحواذ سنويا من قبل الأقلية "الليبرالية" على أكثر من 80% من مداخل البلاد وقروضها وهباتها. يؤازر هذا الوضع " تنابز" بين 300 قبيلة، و 5 عرقيات، وأكثر من 9 شرائح اجتماعية. من حيث الواقع السياسي والمدني هناك: قرابة 100 حزب سياسي، و10500 منظمة غير حكومية، و 11 مركزية نقابية وما يناهز ألف ترخيص لصحيفة ، وهناك 11 مؤسسة دستورية وقانونية، وأكثر من 7 حركات ذات صبغة "أيديولوجية". هذه الأرقام لا تشكل غير عناوين بارزة لواقع أكثر تعقيدا في هذا المجتمع القليل السكان والكثير الموارد، والذي ينتقل من سيء إلى أسوأ وفق منطقية "لعنة سيزيف". فأين الخلل؟ بالنظر إلى هذه المعطيات، فليس من التشاؤم و لا من التطرف في شيء أن نقول إن البلاد لم تحقق شيئا يذكر على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن منذ استقلالها، بالمقارنة مع إمكاناتها و عائداتها و قلة ساكنتها.
فكانت التجربة فاشلة بكل المقاييس على شتى الأصعدة سواء منها الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي و حتى الإنساني. إن خمسين سنة تذهب سدى و هدرا من حياة شعب و من مصير ثلاثة أجيال هي خسارة فادحة لا تعوض. فكم من بلد عبر العالم هو أشد منا فقرا و تخلفا استطاع في حيز من الزمن وجيز تجاوز كل الصعاب و المعوقات و الإكراهات الظرفية و البنيوية من أجل بناء دولة على أسس قويمة و معايير سليمة بفضل الإرادة الصلبة و الرؤية الصائبة التشاركية لساسته و مفكريه و مبدعيه و سواعد أبنائه، مفندين بذلك قدرية و جبرية الفقر و التخلف. لا شك أن ذلك كان ممكنا بفضل إعطاء الأولوية للتربية و التعليم الذين هما حجر زاوية كل تقدم و مصدر كل نماء بشري.
إذا كانت موريتانيا لم تستطع الخروج من نفق الفقر و التخلف و هي الغنية بشتى الخيرات، فإن ذلك يعود لتكميم أفواه مفكريها و مثقفيها و مبدعيها و الاستخفاف بعلمائها، ثم لرداءة برامجها التربوي و التعليمي الذي لم يكن يوما من الأيام أولوية ضمن برنامج الأنظمة المتتالية. إن شبابنا رأس حربة كل تقدم و نماء هو الضحية الأولى لهذا الفشل التربوي و التعليمي و ما ينجر عنه من ويلات و مآسي تدفع بهذه الطاقة الهائلة المعطلة إلى جحيم اليأس و القنوط و الانحراف، ليس لها من حظ و لا نصيب و لا آفاق سوى ما يعد و يمني به الساسة من غد أفضل و مستقبل براق كذبا و غرورا.
إنه تجلي لغياب الدولة حتى في شكلها، في أي من حلقات عروض الأزياء والصناديق. فاين الخلل؟ و ما سبب هذا الفراغ القاتل، ومن حفر هذه الهاوية نحو النفق المسدود..؟ الفراغ سيبقى قائما و الهاوية ماثلة و النفق مسدودا ما لم يتحرر الفكر من التبعية للمرجعيات المستوردة و الدخيلة و تقع قطيعة ثقافية و فكرية واعية حقيقية و نهائية مع الفكر الاستعماري، ليس من قبيل الكراهية أو العداوة أو تصفية الحسابات مع فرنسا، و لا من قبيل التقوقع و الانغلاق و إنما كسبيل لتخليص الفرد الموريتاني من عقدة المستعمَر ليصبح ناضجا و قادرا على تملك مصيره و استرجاع هويته و ذاكرته التاريخية و قيمه الثقافية. هذا النضج و هذا الوعي سيمكنان الفرد الموريتاني من القراءة الصحيحة لتراثه و لثقافته الوطنية بأبعادها المتعددة، فيصبح ما كان البعض يعتبره عامل تفرقة و تشرذم، عنصر ثراء و رافعة فعالة لتقوية صرح الهوية و اللحمة الوطنية. حينها تنمحي كل المسافات و الفوارق. حينها فقط تصبح التربة صالحة و جاهزة لبذر نواة بزوغ دولة قابلة للبقاء.
لا يعني ما تم بسطه من خواطر غير شيء واحد: هو أن موريتانيا عانت و لا تزال تعاني من أزمة رجال و ففقدان زعيم ملهم و رجل دولة فذ قادر على إنجاز المعجزات باختراق المسلمات القائمة و العقليات الرجعية و القضاء على المعوقات و الحواجز المجتمعية التي حالت على مر العصور دون تأسيس الدولة الموريتانية. فإن من تعاقبوا على السلطة ظلوا يتعاملون بإصرار مع الواقع السيئ للبلاد و العباد دون الاهتمام بتغييره أو تحسينه و لا يضعون في أجندتهم عند البحث في مستقبل البلد غير مصالحهم الشخصية الضيقة. إذ لا معنى لهذه الصورة "الشاذة"، ولا معنى لاستمرارها كل هذه العقود دون أن تتغير حتى ملامح التعاطي مع الأمور ومستقبل البلد.
هكذا ظلت أنظمة البلاد تغادر كراسي الحكم دون أن تترك وراءها قاعدة سياسية ثابتة لحكم البلد أو عقدا اجتماعيا متوازنا و قابلا للبقاء. فكلما "دخلت أمة لعنت أختها". إن لم نحدد تماما مهمة مؤقتة للمستقبل مع ترتيب الأولويات، سنظل نراوح المكان نفسه وربما الزمان نفسه كذلك. ولا يخفي أولو الوعي من الموريتانيين و قليل ما هم، أنهم ساخطون على من مسكوا بزمام الأمور طيلة العقود الخمسة الماضية، و قانطون من الطبقة السياسية برمتها و يائسون من قدرتها في المستقبل المنظور على تغيير واقع البلد المختطف عسكريا.
فكيف يرقى مجتمع ترى فيه شيخ القبيلة أو رئيس الحزب أو حتى المثقف الكبير يبيع ولاءه و يستبدل قيمه و مبادئه و واجبه الوطني بمنصب أو حتى بكميات من الأعلاف لقطيعه أو يعرض صوته بضاعة في سوق الضمائر الرخيصة إبان المواسم الانتخابية. إنه من السهل استدرار الشتائم في حق هذه الطبقة. لكن أليس القائمون على أمر الدولة و تسييرها على مر العصور هم المسئولون بالدرجة الأولى عن الواقع المتردي الذي يعاني منه المواطنون ويعاني منه البلد.. بل و يهدد بنسف كيانه؟ فإن الفقر و الجهل و التسيب هي العوامل و المؤثرات التي تحمل هؤلاء على هذه الممارسات... فهل كان هذا يحدث في ظل دولة قوية الأركان سوية البنيان ذات هيبة و حرمة لا تخترق و حمى لا يهتك؟ دولة راشدة في تسييرها، فاضلة في سلوكها، عادلة مع شعبها. فإن الدولة لا تكون قوية و محترمة إلا برجالاتها و كبرائها من أبنائها. فهم حماتها و خدامها. و إن الحثالة لا تنمو و تترعرع إلا في غياب الرجال و على أنقاض و حطام الأوطان المهملة و الأنظمة المعطلة و الشعوب المغفلة.
قد يقول قائل إن عدد الرجال والنساء لا يهم، فمن معجزات الطاقات البشرية أن رجلا واحدا يمكن أن يغير واقع أمة. نعم حدث هذا في التاريخ؛ لكن عهد "الرجال الاستثنائيين"، و رجل الأسطورة.. و محبوبو الملايين قد ولى .. لأن الأوطان عقرت و لم تعد تنجب العمالقة و لأن الشعوب صبئت و صارت تئد أكابرها و تغمط نور عباقرتها و لأن تلك الملايين المحبطة و المنهكة جفت مشاعرها و قست قلوبها و لم تعد بكل بساطة قادرة على الحب في هذه الظرفية و هذا الزمن الرديء، و لا أن تنزل الناس منازلهم. ف " كيف ما تكونوا يولى عليكم". هنا يكون أمامنا طريق واحد للخلاص من "هذه اللعنة السيزيفية"، و هو الاستثمار في ترقية و توظيف طاقاتنا البشرية المعطلة و ذلك بانتشال الشعب من ظلمات الجهل و ويلات الفقر و العمل على تربيته و توعيته بمفاهيم الهوية و الدولة و المواطنة و ما يترتب على ذلك من حقوق و واجبات و مسؤولية. فالشعب الموريتاني ظل يرزح تحت وطأة الأبوة الكاذبة و وصاية الأنظمة الزائفة محجوبا عن كل مسؤولية و لم تتح له قط الفرصة الحقيقية في المشاركة في تسيير مصيره و اختيار القائمين على شأنه و المساهمة في أي عمل وطني جاد. و سيظل الأفق مسدودا و أمل الإصلاح و الخلاص مفقودا ما لم نضع نهاية لهذا الزيف. لأن من بنوا قبلنا الأوطان و شيدوا الأمم لم يفلحوا في ذلك إلا بالتفاني في الوطن حبا و إخلاصا و استقامة و مساهمة في عملية البناء، كل من موقعه و حسب خبرته و استطاعته، على الموسع قدره و على المقتر قدره. لأن حب الوطن فريضةُ عين عقيدة و عملا و ليس مُجرد كلمات نرددها هنا وهناك، و شعارات نرفعها من حين لآخر، و قصائد نتغنى بها. ما لم نعبر عن حب الوطن بالأعمال الجادة، سيبقى حبنا له مجرد ادعاء و شكلاً بلا مضمون وأصداءً بلا أثر وعنواناً بلا هوية.
فلننظر جميعا بعين الشفقة لوضعية هذا الوطن الذي هو وطننا جميعا حتى نستطيع الدفع به إلى الأمام لتجاوز ما يعترض مسيرته من العقبات و المعوقات الطبيعية منها و المصطنعة.
إن الرجال الذين تسلموا وثيقة الاستقلال ـ على طيبتهم ـ لم يكونوا مؤهلين و لم تتوفر لديهم الإمكانات و المناخ الملائم لتحويل الفراغ إلى مركزية تسمى الدولة. وكانت حرب الصحراء أول مسمار في نعش الكيان الحلم، ليتحول بعدها أشباه الرجال إلى متفرغين لإدارة شؤون عائلية، بدل أفق أوسع. من هنا تحول مشروع الدولة إلى "بقرة حلوب" تكرس مفاهيم منافية تماما للمدنية وللدولة، فالموظف البطل هو السارق الأكبر من نفخ الفواتير أو حتى العمل من دونها.. انعكاس تام للقيم أصبح أحد سمات المواطن تأسيا ب"رجال الدولة" الذين تعاقبوا على سدة الحكم، باعة السراب و قتلة آمال و أحلام الشعب.
يستغلون ذعره و فزعه أمام واقعه البائس ليعبثوا بخيرات بلده و يسرقوا أمواله، فيتصدقون عليه منها بفتات لا يسمن و لا يغني من جوع. يمنونه بالفردوس الأعلى شريطة أن يتجرع بجلد و "إيمان" حنظلية الظلم و الحيف و الطوى و يصبر على لأواء الحرمان و دوام الشدة و السنين العجاف.
يستمر هذا الواقع الدولتي الاستثنائي السريالي مخدرا حواس الأمة، التي لا تنتبه لفقدان الدولة إلا عندما ينحدر هذا المطب الاجتماعي أو ذاك، أو تهب رياح حارة من الجوار مصدرة أزمة داخلية (أزمة 89، وقبل ذلك حرب الصحراء، ملف الهجرة والتجنيس والإحصاء، الملف اللغوي... إلخ).. فعند فقدان الحواجز يسهل على الريح أن تجد من تعصف به.
يتابع...