عندما تَكون دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الطّرف الوحيد في العالم الذي يُؤيّد الاستفتاء على استقلال كردستان العراق الذي دعا إليه مسعود البارزاني إلى إجرائه يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي، فإن هذا لا يُشرّف الاكراد، ولا يُشرّف السيد البارزاني نفسه، ويَضع الطّرفين في مُواجهةِ العالم بأسره، وفي التوقيت الخَطأ.
فإذا صَحّت النظريّة التي تقول أن السيد البارزاني المُنتهية ولايته قبل عامين استخدم الدّعوة إلى هذا الاستفتاء لمُمارسة ضُغوط تُعزّز مَوقفه التّفاوضي مع بغداد على صَعيد تَصدير النّفط، والمُساومة على مُستقبل مدينة كركوك المُختلطة الأعراق والطوائف، فإنّ نتائج هذهِ “المُقامرة” جاءت سلبيّةً، وأضعفت إقليم كردستان، وعزّزت مَوقف الحُكومة المركزيّة في بغداد وأحزاب المُعارضة التي لا تقف في خندق الاستفتاء نكايةً في صاحبه، إلى جانب أسبابٍ أُخرى.
المحكمة الدستوريّة الاتحاديّة في بغداد، وهي أعلى سُلطة قضائيّة في البلاد، أفتت ببُطلان الاستفتاء وعَدم دُستوريّته، وطالبت بإلغائه، أما السيد هادي العامري، رئيس الحشد الشعبي، فحذّر من أن إجراءه سيُفجّر حَربًا أهليّةً في البلاد.
عندما ثار الأكراد ضد حُكم الرئيس العراقي صدام حسين، وحَظوا بتعاطفٍ إقليميٍّ ودولي، لأن الرئيس العراقي، ومن سَبقه من رؤساء، لم يكونوا ديمقراطيين، ومارسوا القمع ضد الشعب الكردي وانتفاضته، ويَقفون في خَندق العَداء في مُواجهة أمريكا وإسرائيل، والان تختلف الصورة، وكردستان تتمتع بالحكم الذاتي ووضع اقتصادي جيد، ولذا فانه اذا اندلعت شرارة الحَرب الأهليّة، أو توسّعت إلى حربٍ إقليميّة، فإنه سيَكون من الصّعب على السيد بارزاني أن يَجد من يُسانده في المَنطقة أو خارجها.
العراق اليوم ديمقراطيٌّ كونفدراليٌّ، مَدعومةٌ حُكومته من الولايات المتحدة وإيران معًا، والسيد البارزاني كان وما زال شريكًا في العمليّة السياسيّة التي وُلدت في رَحِم الاحتلال الأمريكي، وساهم مُمثّلوه في وَضع بُنود الدستور الحالي، وكل الاتفاقات النفطيّة المُوقّعة، فما هي الذّريعة التي سيتذرّع بها السيد البارزاني في حال وَجد إقليمه يَخوض حربًا أهليّةً، أو مع دول الجوار.
أمريكا حَليفة الأكراد، عارضت الاستفتاء، والشيء نفسه أعلنته بريطانيا التي أوفدت وزير دفاعها مايكل فالون إلى أربيل لثني السيد البارزاني عن إجرائه، والشيء نفسه فعلته فرنسا، أمّا تركيا فتَجري مُناوراتٍ عسكريّةٍ تُشارك فيها مِئات الدبابات والعَربات المُسلّحة على الحُدود مع العراق استعدادًا للتدخّل عَسكريًّا في حال المُضي قُدمًا في الاستفتاء، التي تَرى أنّه سَيكون خُطوةَ تحريضٍ للأقليّة الكُرديّة في تركيا للانفصال.
لا نَعتقد أن السيد البارزاني أقوى من العراق وإيران وسورية وتركيا إقليميًّا، وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا دوليًّا، ويَستطيع أن يَفرض مَوقفه على جميع هؤلاء، ويَمضي قُدمًا في استفتائه وكأنّه شَمشون الجبّار.
الدّعم الإسرائيلي العَلني للاستفتاء، واحتفاء السيد البارزاني وبَعض مُؤيّديه به، ورَفعهم أعلام نجمة داوود الزرقاء في وسط أربيل، ليس مَبعث فخر للأشقاء الأكراد، بل مَصدر استفزاز لملايين العَرب والمُسلمين.
ربّما يُفيد في هذهِ العُجالة أن نُطالب السيد البارزاني بقراءة النتائج الكارثيّة التي لَحقت ببريطانيا من جرّاء استفتاء آخر ورّطها فيه ديفيد كاميرون، رئيس حزب المُحافظين في حينه، للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فقد خَسر حزبه أغلبيّة في البرلمان، واستقال مَهزومًا، ذليلاً، وباتت بلاده مُطالبةً بدفع فاتورة طلاق مِقدارها 70 مليار جنية إسترليني على الأقل، وخَسرت بريطانيا الكثير من قوّة اقتصادها، وباتت مِثل اليتيمة في مُحيطها، ولو أُعيد الاستفتاء اليوم لسَقط سُقوطًا مُريعًا، حسب آخر استطلاعات الرأي.
السيد البارزاني سيَكون الخاسر الأكبر في تقدير هذهِ الصحيفة في كل الأحوال، سواء مَضى قُدمًا في الاستفتاء وتحدّى الجميع، أو رَضخ للضّغوط وقرّر إلغاءه أو تأجيله.
خِتامًا نقول أن هذا الرّجل بخَطوته هذه، وحّد كُل جيرانه ضدّه، ووضعهم في جبهةٍ واحدةٍ في مُواجهته، فمَن يَستطيع هَزيمة إيران والعراق وسورية وتركيا، وبدون دعمٍ أمريكي أوروبي روسي واضح وصريح لخَطواته الانفصاليّة؟
لا نَعرف ما هو تفسير السيد البارزاني وحِزبه لهذهِ المُغامرة أو المُقامرة لعلّه يَعرف أُمورًا لا نَعرفها، والكثيرون مِثلنا، ونَحن في الانتظار، ونأمل أن لا يَطول انتظارنا.
“رأي اليوم”