الديمقراطية ليست نهاية التاريخ، وربما تكون بمعنى من المعاني نقطة بدايته لأن جميع الآمال تفتح، وكل الأحاسيس المحبوسة والمسكوت عليها تطفو على السطح، وكل المطالب يعبر عنها صراحة وكل الموانع والمحظورات ترفع. العراقيل والصعوبات والتحديات وحتى المخاطر لا تنتهي بسبب بسط الديمقراطية أو بسبب إعلان نتائج انتخابات حرة وشفافة.
الديمقراطية هي مجرد صيغة تتيح للشعب إمكانية اختيار قادته وطرح المشاكل بطريقة أخرى وبوسيلة أكثر ملاءمة وأكثر صراحة، بروح مواطنة أكثر انسجاما مع العقل.
مسؤوليات ومهام وواجبات الدولة تبقى تامة وخاصة أمام التحديات الاستراتيجية المطروحة على عاتق كل دولة مهما كانت، ديمقراطية أو مستبدة. هذه المسؤوليات تتعاظم وتتضاعف بالنسبة للدول الصغيرة ليس فقط لكثرة وإلحاح الحالات الاجتماعية والاقتصادية المستعجلة التي تتدافع ولكن أيضا وأساسا بسبب حالة شريعة الغاب التي تحكم المجتمع الدولي والتي تسود فيها الحسابات الأنانية والجشع والأطماع والمنافسات، بدلا من العدالة والإنصاف وحب الغير. وكما أنه لا توجد ضمانة اجتماعية للدول المريضة أو المصابة بالضعف أو الضعيفة من الأساس، فإن الدولة التي تتميز بالوعي والمسؤولية، مع كونها موجودة في الفرن والمطحنة، تتقاذفها المهام اليومية، عليها أن لا تنام إلا نوم الأرنب - بعين واحدة- لتتأكد باستمرار أنها ليست في طريقها إلى الحصار أو أنه لا يوجد حصان طروادة، مطلي بألوان العدالة والحق، في قلب القلعة.
قيادة شؤون الدولة هي باستمرار كشوكة الميزان متأرجحة بين الجراحات الداخلية والتهديدات الخارجية وتتزايد مصادفات اللعبة عندما ينضاف الاضطراب الشعبي أوفساد الحكام إلى الريبة الدبلوماسية.
لا يمكن لأية دولة أن تبقى سلبية أو تتكل على طيبة الجيران وحماية الأصدقاء دون أن تعرض نفسها لأن تصبح مادة لصراع الآخرين وهدفا لرهانهم، وبالعكس عندما تقوم الدول الصغيرة باستعمال إمكانياتها في المناورة، مهما كانت ضئيلة، فإنها تصبح صانعة استراتيجيات، أي أنها أصبحت عامل مصادفة أو اضطراب للآخرين. عند ذلك تصبح من فاعلي اللعبة الدولية وتصبح سياستها سندا لمصالحها وعنصر دفاع عنها ضد التطاولات الأجنبية والهيمنات الاقتصادية.
المناورات الدبلوماسية يجب عليها أن تندرج في إطار استراتيجية عامة، ومركبة إذا تطلب الأمر. بالنسبة لحكومة تنزع إلى منع تنامي الأخطار أو خلق المزيد منها، فإنها تصبح أداة لرقابة التأزمات. إن السيطرة على أزمة لا تعني بالضرورة تلطيفها ولكن، في الغالب، استعمالها لغاية استراتيجية معينة، أي لتقدمها في اتجاه أهدافها. ولكن الاستراتيجي يجب أن لا يخطئ في غايات سياسة منافسيه.
I- المقاربة الاستراتيجية:
في الأصل الاستراتيجية مفهوم عسكري. وأكبر منظر معروف للاستراتيجية، وهو اكلوز فيتش، يحددها كما يلي: "الاستراتيجية هي النظرية التي تعني باستعمال المعارك في سبيل الحرب"، ولكن الاستراتيجي الألماني لم يقبل أن يفرق بين الحرب والسياسة: "الحرب الواقعية أو الفعلية ليست مجهودا منسجما ولا تبلغ مداها كما يجب أن يكون حسب مفهومها ولكنها شيء هجين، تناقض في الذات. في هذه الصورة لا يمكن للحرب أن تتبع قوانينها الخاصة، ولكن يجب أن ينظر إليها كجزء من كل يختلف عنها وهذا الكل هو السياسة.... فن الحرب هو سياسي في أعلى مستوى له ولكنها سياسة تخوض معركة بدلا من أن تحرر مذكرات دبلوماسية".
مفهوم الاستراتيجية أصبح استعماله ساريا في السياسة، ولا شك أن اكلوزفيتش شارك أكثر من غيره في ذلك التحول، والسياسة بدون استراتيجية هي هزال وخمول وتخبط تافه. ويجب أن لا ننسى أن اللجوء إلى السلاح نفسه هو إحدى الاستراتيجيات الممكنة في ظروف معينة وتحت إملاءات وإكراهات قاهرة، ولذا وُجهت إلى قادة الدول، منذ عهود قديمة، هذه التوصية الغامضة: "إذا كنتم تريدون السلم فهيئوا الحرب".
هذه التوصية كملتها الملاحظتان التاليتان في العهود المعاصرة، الأولى:" الفراغ العسكري أخطر من التخمة العسكرية" والثانية: "تأثير الضعف لا يقل خطورة على السلم من الإفراط في القوة".
إذا كانت الإرادة في استعمال القوة عديمة فإن أعتى القوات قد تصبح فاقدة لأي تأثير ردعي أو إقناعي ولذلك السبب فإن دولة مسؤولة عليها أن لا تتباهى أكثر من اللازم بسياستها المسالمة. إن ممارسة سياسة الردع هي جزء من الدبلوماسية الوقائية. وحسب تعبير افريدريك الثاني: "إنه من الأفضل أن تستبق وقائيا بدلا من أن يوقى منك"، ونحن نعرف أن الرجل يدري ما يقول.
من حيث المبدأ يمكن الحديث عن الاستراتيجية من ثلاثة زوايا:
1- في حالة تهديد أو خطر كامن.
2- في حالة طموح أو إرادة أو تطلع إلى أهداف أساسية أو إلى مستويات تعتبر مشروعة أو لازمة على المستوى المتوسط أو البعيد.
3- في حالة انشغال أو اهتمام بالحفاظ على وضع معين، بدون هدف إيجابي، إذا صح التعبير، بل بهدف سلبي بمعنى أن الهدف ليس الحصول على شيء جديد أو إضافي ، فقط للحفاظ على حالة سكون.
يثرينا اكلوزفتيش حول الاستراتيجية بهذه العبارة: "في الاستراتيجية كل شيء بسيط، وهذا لا يعني سهلا"، وعلينا أن نفك الرمز: يعني صعبا جدا. ويوضح اكلوز فيتش ما يعني: "كل عمل في الاستراتيجية يتحقق في نوع من الغسق يعطي للأشياء مسحة ضبابية أو قمرية، بُعدا مغاليا، توجها مضخما وغريبا.. في الواقع فإن العلاقات المادية بسيطة جدا. الشيء الصعب هو فهم القوى المعنوية التي تدخل اللعبة".
الاستراتيجية هي مجال الكميات الضخمة والفضاءات الواسعة والمديات الطويلة، بينما هو العكس بالنسبة للتكتيك. مفهوم الاستراتيجية يوحي، على الأغلب، بهدف بعيد أو صعب المنال. فهي مقاربة كثيرا ما تكون متعرجة أو مركبة، تشرك عدة عناصر أو عدة عمليات وتنسق عدة سياسات أو مبادرات من أجل الوصول إلى هدف يعتبر أساسيا، لا تتمكن عملية واحدة، أو بالأحرى عملية خطية، أن تحققه، ولا يمكن التطور الطبيعي المنتظر من الوصول إليه في الزمن المناسب. بالنسبة لكلوز فيتش يجب أولا، قبل كل شيء، تحديد المهام الرئيسية، وإذا أمكن أن تهيمن عملية رئيسية واحدة. وفي كل الحالات يجب إبقاء المهام الثانوية في أقصى أنواع الخضوع. في حياة الدول يتكشف، مع الأسف رغما عنا، أن حشدا كبيرا من المهام الرئيسية يتزاحم على الأفضلية من أجل أن ينال الأسبقية.
يتواصل..