27 يونيو 1995، استيقظ العالم على انقلاب في دولة خليجية صغيرة. الإبن الشيخ حمد ينهي حكم أبيه الشيخ خليفة آل ثاني. سقط الخبر كالصاعقة على رؤوس الناس بالنظر إلى ما عرف عن هذه المنطقة من جمود وخمود وركود ومحافظة. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ كيان مثير للجدل اسمه "قطر" يتغلغل ويترسخ في الخريطة العالمية.
أراد أمير قطر الجديد أن يجعل لدوْلته مكانة متقدمة في محيطها الإقليمي. وبدأ يتطلع للعب أدْوار مركزية من خلال دبلوماسية ناعمة قوامها الانفتاح والتميز واستقطاب القلوب وتآلفها. ولبلوغ أهدافه استخدم وسيلتيْن اثنتيْن هما: المال والإعلام. فاسْتثْمر مليارات الدولارات في حملات "علاقات عامة" شملتْ مشارق الأرض ومغاربها من خلال الندوات والملتقيات، والمؤتمرات، والمباريات الرياضية، والعمل الإنساني، إلى غير ذلك. وأسس قناة "الجزيرة" تعبيرا عن طموحاته، وفاز لاحقا بتنظيم مونديال كرة القدم 2022 تجسيدا لرؤيته.
وإدْراكا منه بأن المال والإعلام لا يكفيان، وأن تطلعاته لا تتناسب مع حجم بلده من حيث عدد السكان والمساحة والقوة الصلبة، بادر بتعويض نقاط الضعف بإقامة قواعد عسكرية أجنبية والتقرب من الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل وحلف شمال الأطلسي. وبعد الحرب على العراق والإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، استمرت قطر في نشاطها الملفت والمثير، واضطلعت بأدوار دبلوماسية مهمة في مناطق عديدة من العالم، في أثيوبيا، وأريتريا، ودارفور، وفلسطين (غزة)، ولبنان، وأفغانستان، إلخ. وفتحتْ أبوابها لحركة "الإخوان المسلمين" وتحولت إلى قلعة "نضال" ومصدر إلهام للربيع العربي معتبرة إياه ثوْرة وإصلاحا. واقترن إسم قطر و"الجزيرة" بأحداث "الربيع" ومآلاته ونتائجه في تونس ومصر وليبيا وسوريا. وظل الرأي العام العربي منقسما حوْل الدور القطري بين منْ يراه دعما لثوْرات شعبية، ومنْ يراه محْض إجْرام وتخْريب وخدمة لأجندة أجنبيّة.
25 يونيو 2013، تنَحّى الشيخ حمد عن السلطة لصالح ابنه تميم. وأوْرثه أوضاعاً صعبَة في الداخل والخارج. كان فصْل "الربيع" قد تَراجَع. وأطيح بالرئيس محمد مرسي بانقلاب عسكري. وتراجع حزب النهضة في تونس. وتقدم حفْتر في ليبيا. واحتوى الرئيس الأسد وحلفاؤه الصدْمة واسترْجعوا زمام المبادرة في سوريا. وأنجزت إيران اتفاقها النووي وتضاعف نفوذها في العراق وسوريا ولبنان. وبدأ غضب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات إزاء النشاط القطري يطفو على السطح. وكادت القطيعة أن تحدث في 2014 لوْلا وساطة أمير دولة الكويت.
وبيْن يديْ هذا الإرث الثقيل، ما كان للأمير الشاب، الشيخ تميم، إلا أنْ يخطب ود السعودية ويتقي منها تقاة؛ خاصة بعد وفاة الملك عبد الله رحمه الله ومجيئ الملك سلمان وابْنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. عززت قطر تنسيقها مع جارتها الكبيرة في العراق، وضاعفت تمويل وتسليح "النصرة" في سوريا، وصنفت حزب الله حركة إرهابية، وتوددتْ وتقربتْ وانْخرطتْ في مغامرة اليمن محاباة للسعودية وخوْفا منها. وبالغتْ في محاربة "التمدد الإيراني" و"المد الشيعي"؛ ولكنّ ذلك كلّه لم يشْفع لها ولم يَقِها شرّ التوجهات والخطط الجهنمية المرادة للمنطقة في عهد الرئيس الأميركي دونالد تْرامبْ والمحمديْن والرئيس السيسي.
لقد بات من الواضح أن المنطقة تتجه الآن إلى معادلات جديدة لا مكان فيها بحسب أصحابها للمقاومة الفلسطينية حماس والجهاد وغيرهما من الحركات التحررية الجادّة، وحزب الله، وما يسمّى بالإسلام السياسي عموما والإخوان خصوصا، ومن يقفُ معهم ويدْعمهم ولوْ بشطر كلمة أو شقّ تمرة. نعمْ، معادلات جديدة عنْوانها البارز: صداقة إسرائيل، ومعاداة إيرانْ !؟ معادلات تهدف بوضوح إلى تصفية القضية الفلسطينية ومحاربة الدّين. ذلكم هو السّبب الحقيقي في قطع العلاقات مع قطر ومُحاصَرَتها بتهمة تمويل الإرهاب (؟) لترْكع وتنْثني وتتراجع وتسير في الرّكب. فماذا هي فاعلة الآن؟
إن منطق التاريخ ومعطيات الجغرافيا وإكراهات الواقع المعيش وميزان القوة كلها عوامل تفرضُ على قطر التبصر والتروي والمرونة وصولا إلى تهْدئة ما(؟) مع السعودية من دون الانصياع لشروطها بالكامل والعوْدة إلى أحضانها. عليْها أنْ تخفف من مغامراتها وتخفِّضَ سقْف طموحاتها ليكون على قدْر طاقاتها وحجْمها.
قطر لا تستطيع أنْ تنافس وتزاحم السعودية في كسب ود أميركا، ولا تستطيع أنْ تتصدر المنطقة وتقودها بمفردها. ولأجل ذلك، لا بد لها من حلفاء تستند إليهم من خارج البيئة الأميركية المنْحازة سلفا للسعودية والإمارات. وأمامها خياران فقط، لا ثالث لهما : إما أنْ تتنازل وتتخلى عن كثير مما عندها من رؤى وأفكار تثير حفيظة السعودية، وتنْتهي سياسياً وإلى الأبـدْ؛ وإما أنْ تغير من سياساتها في سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتسْتغل مناخ الحرب "الباردة" العائدة إلى المنطقة والعالم للضغط على أميركا بالتقرب من الحلف الآخر والاستناد إليه، وهو حلف معروف، وقادر ومؤهّل لأنْ يكون ظهيراً ضامناً وحاضناً لها وللمقاومة الفلسطينية والحركات الإسلامية والإصلاحية المستنيرة.
وهل ستفْعلها قطر؟ هل تَتَشَجّع وتولي عن قبلتها التي كانت عليها؟
من صفحة الوزير السابق محمد فأل ولد بلال