كانت ليلة السبت الاحد الماضي ليلة دموية في مدينة لندن بكل المقاييس، فما كادت العاصمة البريطانية تفوق من صدمتين ارهابيتين، الأولى بجوار برلمانها والجسر المطل عليه على نهر التايمز في آذار (مارس) الماضي، والثانية في مدينة مانشستر قبل أسبوعين، لتأتي الصدمة الثالثة مزدوجة، وتجمع بين اسلوبين خطرين في القتل، الأول الدهس، والثانية طعنا بالسواطير، والرعب كان وما زال سيد الموقف.
السيدة تيريزا ماي، رئيس وزراء بريطانيا، التي تفضل ان توصف المرأة الحديدي، على غرار قدوتها الراحلة ماغريت تاتشر، لم تكن حديدية على الاطلاق وهي تتعاطى مع هذه الموجة الإرهابية الكاسحة، خاصة انها جاءت قبل خمسة أيام من اجراء انتخابات برلمانية مفاجئة دعت اليها على امل الحصول على تفويض بريطاني مفتوح ترتكز اليه في مفاوضاتها الصعبة والمعقدة مع الاتحاد الأوروبي، حول التفاصيل النهائية للطلاق بين بريطانية والاتحاد في بروكسل، ولكن استطلاعات الرأي تقول بأن رياح هذه الانتخابات لن تأت وفق ما تشتهيه سفنها.
هوية المنفذين لهذا الهجوم كانت شبه محسومة، وتأكدت بصورة اكبر، عندما كانوا “يكبرون، ويصرخون “الله اكبر” وهم يطعنون ضحاياهم، وارتدى احدهم حزاما ناسفا مزورا، ولكن الجهة التي ينتمون اليها تنظيميا لم تعلن عن نفسها، وتتحمل المسؤولية، مثلما جرت في هجمات مماثلة في بريطانيا وعواصم أوروبية أخرى مثل باريس وبرلين وبروكسل، حتى كتابة هذه السطور، ولكن وقوف “الدولة الإسلامية” خلفاها ربما يكون الأكثر ترجيحا من قبل معظم الخبراء، بالنظر الى التشابه في التنفيذ بالقياس مع العمليتين السابقتين في مانشستر وقرب البرلمان.
اعتقد البريطانيون، حكومة وشعبا، انهم افضل حظا، بل اكثر امنا، من جيرانهم الأوروبيين، لانهم ومنذ تفجيرات السابع من تموز (يوليو) عام 2005 التي استهدفت قطار انفاق العاصمة، لم تتعرض بلادهم لاي عملية إرهابية واعادوا ذلك الى كفاءة اجهزتهم الأمنية، الامر الذي عرض هذه الاجهزة، ورغم “الصمت الارهابي” الذي استمر 12 عاما، وحدوث ثلاث هجمات إرهابية في غضون ثلاثة اشهر، أي بمعدل هجمة كل شهر، لانتقادات عديدة من قبل سياسيين ورجال اعلام، وخاصة ان السيدة ماي رئيسة الوزراء كانت وزيرة للداخلية لاكثر من سبع سنوات.
يجب النظر الى هذه الهجمات الإرهابية، التي أوقعت تسعة قتلى (من بينهم ثلاثة من المهاجمين) واكثر من خمسين جريحا (بعضهم جروحه خطرة) من زاويتين مهمتين:
الأولى محلية: أي انها كشفت عن اختراق امني خطير ناجم عن حالة من الترهل والاطمئنان ناجمان عن الثقة الزائدة بالنفس من قبل قادة الأجهزة الأمنية، مع التسليم بالنظرية التي تقول بأنها منعت حدوث 80 هجوما إرهابيا على الأقل في السنوات العشر الماضية.
الثانية خارجية: وهذه لها علاقة بالحرب المتأججة على الارهاب، وبالتحديد تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسورية من قبل تحالف تقوده أمريكا ويضم ستين دولة على الأقل، فمشروع هذا التنظيم في إقامة الخلافة مني بنكسة كبيرة بعد اقل من اربع سنوات من إعلانه من على منبر المسجد النوري الكبير في الموصل صيف عام 2013، ومرحلة التمكن ومن ثم التمدد الجغرافي اوشكت على الانتهاء بخسارة هذه الدولة اكثر من 80 بالمئة من أراضيها، الامر الذي دفع بها لـ”التمدد” إرهابيا، وتبني نهج تنظيم “القاعدة” الام الانتقامي الثأري بتكثيف العمليات في الغرب.
ابو محمد العدناني المتحدث الأبرز لتنظيم “الدولة الإسلامية”، او “داعش” مثلما يفضل البعض تسميتها، كان منظّر الهجمات الإرهابية في الغرب، والمحرض عليها قبل مقتله، والمشرف على خلاياها المنفذه، بادر عندما شاهد مشروع الخلافة يقف على حافة الانهيار، الى مطالبة خلاياه النائمة، او الخاملة، في الغرب للتحرك بما في ذلك القتل طعنا او دهسا اذا لم تتوفر الأسلحة النارية، ويبدو ان الهجمات الأخيرة في باريس ولندن وبروكسل ونيس كانت تجاوبا مع هذه الدعوة الدموية.
قليلون في بريطانيا يتناغمون او يقبلون، بالربط بين هذه العمليات الإرهابية وسياسة بلادهم الخارجية، وتنكر الأكثرية مثل هذا الربط، تماما مثلما فعل توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، بعد هجمات مترو الانفاق الانتحارية قبل 12 عاما، ليتراجع عن نكرانه لاحقا، ولكن جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال كان الأكثر جرأة وشجاعة عندما ايد هذا الربط، واكد ان سياسة بريطانيا الخارجية، وتدخلها في حروب منطقة الشرق الأوسط، لعبت دورا مهما في جعلها احد الأهداف الأبرز للارهاب.
مكافحة الإرهاب، والجماعات المتطرفة الذي تتبناه جهات ودول وحكومات غربية وعربية إسلامية لا يمكن ان تتم بالحلول الأمنية، ولا بالمجهود الفردي للدول، لان هذا الإرهاب عابر للحدود أولا، ويستند الى أيديولوجية دينية طابعها التطرف ثانيا، ونتيجة تدخلات عسكرية وفرت له الحواضن الدافئة التي تساعده على النمو، وخلف الدول الفاشلة ثالثا، وغياب العدالة الاجتماعية، والحكم الرشيد في معظم دول الشرق الأوسط رابعا.
العمليات الإرهابية مرشحة للتصاعد في الأسابيع والاشهر والسنوات المقبلة، لان تنظيما مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” سينزل الى تحت الارض، واللجوء الى أماكن رخوة امنيا، وستحاول عناصره الانتقام من كل الحكومات والدول التي توحدت لافشال مشروعه وطموحاته في إقامة الخلافة، والنزول تحت الأرض واللجوء الى العمل السري ارخص بكثير من إقامة دولة وتوفير الخدمات الضرورية لمواطنيها من امن وصحة وتعليم وماء وكهرباء، خاصة اذا كانت هذه الدولة محاصرة، وتتعرض مصادر دخلها للتجفيف (النفط مثلا).
فاذا وضعنا في اعتبارنا ان كلفة اضخم عملية إرهابية في التاريخ الحديث، أي هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في واشنطن ونيويورك لم تكلف الا حوالي 200 الف دولار، فان الصورة تبدو واضحة للعيانـ ولا تحتاج الى الكثير من الشرح.
هذه الهجمات الإرهابية، وايا كان الذي يقف خلفها مدانة بأقوى العبارات، ليس لانها تلحق اضرارا كبيرة بأكثر من ثلاثة ملايين مسلم في بريطانيا، وانما لانها عبثية انتقامية صرفة تستهدف أناس أبرياء لا ذنب لهم، وربما تتعاطف نسب كبيرة منهم، مع القضايا الإسلامية والعربية العادلة، ويعارضون جوانب عديدة من سياسات حكوماتهم الخارجية.
محاربة الإرهاب والتطرف بأصنافه كافة مسؤولية جماعية للحكومات والمواطنين معا، وبما يؤدي الى الاستقرار والامن وهما من أولويات مصلحة الأمم وازدهارها.
“راي اليوم”