رحل فيدل كاسترو آخر الرجال العظماء، والقادة الثوريين، والعدو اللدود للاستعمار الامريكي الوحشي، ورمز الصمود والتحدي في مواجهة كل عمليات الاذلال من خلال الحصارات التجويعية الظالمة.
هذا الرجل الذي، وعلى مدى خمسين عاما من الحكم، وضع جزيرة كوبا المجهولة في البحر الكاريبي في قلب خريطة العالم، وحولها الى مصدر الهام للثورات في امريكا اللاتينية والعالم الثالث بأسره.
تحدى 11 رئيسا امريكيا، وافشل اكثر من 638 محاولة اغتيال دبرتها وكالة المخابرات المركزية الامريكية، وقضى على الامية في بلاده، واسس نظاما صحيا ليس له نظير في العالم كله، وارسى نظاما تعليميا انجب الاطباء المهرة الذين ذاع سيطهم، وتفوقوا على نظرائهم خريجي واساتذة اشهر الجامعات والاكاديميات الطبية في العالم.
كاسترو ابن احد اكبر العائلات الاقطاعية في كوبا انتصر للفلاحين والعمال الفقراء، واجتث الاقطاع من جذوره، وحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء من خلال اتباع تنمية اقتصادية مستقلة.
***
انهيار الاتحاد السوفيتي، حليفه الرئيسي عام 1991 كان نكسة كبيرة بالنسبة اليه، سياسيا واقتصاديا وشخصيا، وواجهت بلاده ازمة حادة في ظل حصار امريكي خانق، ولكنه نجح في تجاوزه، او التخفيف من أثارها بفضل دولتين حليفتين هما الصين وفنزويلا، ولعب الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز الدور الابرز في توفير الاموال والاستثمارات والنفط لانقاذ ابيه الروحي كاسترو ودولته كوبا من الازمة.
كان دائما الحليف لداعم الوفي للشعب الفلسطيني وثورته العادلة لاستعادة حقوقه المشروعة، واستوعب آلاف الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الكوبية، وقال لي الزعيم الراحل ياسر عرفات انه عندما كان يشعر بالضيق والاحباط من ظلم ذوي القربى خاصة، كان يذهب الى كوبا.. الى كاسترو.. حيث الراحة النفسية، والشحذ الثوري، ورفع المعنويات ليعود بعدها اكثر ايمانا وصلابة.
التواضع، والبدلة العسكرية الخضراء، والسيجار الكوبي الشهير كانت العلاقات الفارقة في حياة هذا الراحل العظيم الذي لم يسمح بتعليق صوره في الشوارع بلاده، ولا اقامة تماثيل ضخمة في ميادينها، ويغادر هذه الحياة دون ان يملك قصورا، ولا يخوت فاخرة، ولا ارصدة بنكية متضخمة بملايين او مليارات الدولارات، ولكنه ترك ارثا ثوريا عظيما عنوانه الكرامة، وعزة النفس، والرجولة ورفض الركوع للاستعمار الامريكي، والانحياز للفقراء ملح الارض وهو ابن الاكرمين.
***
احببناه لهذا الارث المشرف، ولكونه الاقرب لمعاناة شعوبنا وهو الذي يبعد عنا آلاف الكيلومترات، احببناه لانه كان سيظل قدوة لجيلنا ومصدر الهام ونموذج في الصمود والتحدي ورفع الرؤوس عاليا وعدم الركوع الا للخالق جل وعلا.
لا نعتقد ان زعماء عرب هذه الايام سيشاركون في جنازته، تماما مثلما لم يشاركون في جنازات شرفاء آخرين مثل نيلسون مانديلا وهوغو شافيز، لانه يشكل نقيضا لهم ويذكرهم، او معظمهم، بتخليهم عن قيم العدالة والنضال ووقوفهم في خندق الظلم الامريكي.
فيدل كاسترو وداعا من القلب، فنحن الذين احببناك، ونعرف تاريخك وارثك الوطني والانساني المشرف.
عبد الباري عطوان