قضيت بضعة أيام في الأردن الذي زرته مدعوا من الأمم المتحدة للحديث في ندوة مغلقة للخبراء عن أوضاع المنطقة، خاصة في سورية والعراق ولبنان وتركيا، علاوة على فلسطين المحتلة، والتقيت في عمان العاصمة بمعظم قيادات النخبة السياسية، وعدد كبير من رؤوساء الوزراء، والوزراء، ورجال اعلام واكاديميين، وعدت بذخيرة كبيرة من الآراء والتوقعات والمعلومات ومعظمها متشائمة، بالإضافة الى ثلاثة كيلوغرامات من الوزن الزائد، تركزت في محيط الخصر (الكرش) بسبب كثرة الدعوات (كانت تقتصر في الماضي على الغداء والعشاء واضيف اليها الفطور حاليا)، واعجبني احد الظرفاء الذي قال “من لا يعاني من الكولسترول ليس رجلا وليس منا”.
من النادر ان تجد شخصا متفائلا هذه الأيام في العاصمة الأردنية، فالشكوى والقلق من المستقبل العمود الفقري في جميع اللقاءات والندوات والديوانيات، القلق من الحروب التي تسود دول الجوار الأردني (سورية العراق)، واحتمالات تورط اكبر للاردن فيها (الجبهة الجنوبية السورية)، والقلق من الازمة الاقتصادية المتفاقمة.
هناك خمس قضايا رئيسية تشكل محور الغالبية الساحقة من النقاشات الساخنة جدا، وتثير الشارع الأردني وترفع منسوب الغضب لدى المواطنين:
* الأولى: اتفاق استيراد الغاز مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي وقعتها حكومة السيد هاني الملقي الحالية، وتواجه حملة شديدة جدا من الانتقادات بشأنها، تصل الى درجة التخوين في بعض الحالات، وشهد الشارع الأردني عدة مظاهرات احتجاجية.
* الثانية: تعديل المناهج التعليمية، وحذف بعض الآيات التي تحرض على قتال اليهود، وما يعتقده معدلوها بأنه تحريض على العنف والإرهاب أيضا.
* الثالثة: الازمة الاقتصادية وارتفاع نسبة التضخم والغلاء والدين العام، والمخاوف من فرض ضرائب جديدة في المستقبل القريب لتقليص عجز الميزانية.
* الرابعة: تزايد احتمالات جر الأردن الى الجبهة السورية الجنوبية، وتفعيلها عسكريا من حيث تحويلها الى قاعدة انطلاق للضغط على النظام من خلال تهديد العاصمة دمشق، كرد او تعويض عن سقوط مدينة حلب الوشيك.
* الخامسة: الإرهاب والعناصر المتطرفة التي يتزايد وجود خلاياها في الأردن، والخوف من اعمال تفجير واغتيالات، وآخرها قتل الناشط ناهض حتر امام مدخل المحكمة.
الازمة الاقتصادية في الأردن هي الأكثر خطورة، حيث يهدد تفاقمها امن البلد واستقراره، اذا لم يتم إيجاد حلول سريعة لتنفيس احتقانها المتفاقم، فالدين العام وصل الى 35 مليار دولار، أي ما يعادل 93 بالمئة من الناتج القومي العام، وتبلغ خدمة هذا الدين حوالي 2 مليار دولار سنويا، حيث يصل متوسط معدلات الفوائد حوالي 7 بالمئة، وهناك تقديرات تؤكد ان الأردن قد لا يستطيع دفع هذه الفوائد في غضون السنوات الثلاث المقبلة، ناهيك عن الدين نفسه.
الحلول المقترحة ويدرسها المسؤولون حاليا بعناية فائقة، يمكن تلخيصها في اربع نقاط رئيسية تتفرع عنها نقاط أخرى نوجزها كالتالي:
* الاولى: المساعدات من دول الخليج، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، حيث تشكل هذه المساعدات 14 بالمئة من الناتج القومي العام.
* الثانية: تشجيع السياحة، وهذا ربما يعني كسر كل المحرمات في بلد محافظ جدا إسلاميا واخلاقيا (يشهد اعلى نسبة في جرائم الشرف)، والرضوخ لمتطلبات المثلث الأخطر الحتمي (خمر.. قمار.. دعارة)، او اللجوء الى السياحة الدينية الإيرانية الشيعية كبديل.
* الثالثة: الاستشمارات الخارجية وتشكيل لجان من الخبراء خاصة بها، وجذب المليارات، وإدخال إصلاحات قانونية جذرية لتسهيل حركتها.
* الرابعة، فرض ضرائب جديدة على السلع الأساسية، وهناك مؤشرات على ان حكومة الملقي الحالية بصدد فرض موجة ضرائب جديدة في المستقبل القريب على المياه والخبز، تلبية لشروط صندوق النقد الدولي، الامر الذي ربما يفجر احتجاجات شعبية.
المساعدات الخليجية للاردن تراجعت بشكل ملموس، او تجمدت بالأحرى، فبينما حصلت مصر على حوالي 29 مليار دولار من السعودية وحدها في السنوات الثلاث الماضية، علاوة على مساعدة نفطية بمقدار 700 الف طن من النفط شهريا، لم يحصل الأردن الا على الفتات، ولم تحقق جهود الدكتور باسم عوض الله، مبعوث العاهل الأردني الى السعودية، الاختراق المأمول، على صعيد الحصول على مساعدات مميزة، رغم ما يتردد عن علاقته الوثيقة مع الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، ورئيس المجلس الاقتصادي الأعلى، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المملكة.
رئيس وزراء اردني سابق من الوزن السياسي الثقيل، ويعتبر من ابرز الخبراء في الشأن الخليجي، قال لي، ان الأردن كان مؤدبا اكثر من اللازم مع الدول الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، وكان عليه ان لا يطلب مساعدة او قرض، فهو ليس “متسولا”، وانما مقابل خدمات امنية وسياسية كبيرة يقدمها للسعودية مجانا، ومن بينها حماية الحدود السعودية، ومنع تدفق اللاجئين والإرهابيين عبرها، وتقديم معلومات استخبارية لا تقدر بثمن.
وقال لي رئيس الوزراء نفسه حرفيا “الوقت بات متأخرا الآن، فالسعودية على حافة الإفلاس، وتفرض ضرائب على مواطنيها، ومتورطة في حروب في اليمن وسورية، وتطبق سياسات تقشفية، ولم تدفع الحكومة ديونها لدى الشركات السعودية التي باتت عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها”، وبدأت تلجأ للاقتراض من السوقين المحلي والعالمي (طرحت سندات خزينة بقيمة 17.5 مليار دولار في الاسواق العالمية قبل اسبوعين)، وختم حديثه بالقول “لا اعتقد ان الدفع للاردن بات يحتل أي مكانة على أولويات المملكة، وكل ما يقال عن مساعدات سعودية قادمة هو من قبيل التخدير”.
لا نعتقد ان الأردن الذي تحكمه اسرة هاشمية تستمد شرعيتها الدينية من “آل البيت” ستقبل بشروط السياحة الحديثة، أي “الخمر والدعارة والقمار”، ولكن رئيس وزراء اردني سابق آخر تساءل “لماذا لا ينفتح الأردن على ايران، طالما ان الدول الخليجية تراوغ في المساعدات، فالسياحة الدينية الإيرانية يمكن ان تشكل مصدرا للدخل لا باس به للخزينة الأردنية، فهناك مقام الامام أبو جعفر الطيار في الكرك، ومزارات وقبور وعتبات مقدسة للشيعة في جنوبه، يمكن ان يزورها اكثر من خمسة ملايين سائح إيراني سنويا في الحد الأدني”.
مجلة “الايكونومست” الاقتصادية العريقة (تعتبر من المجلات الأكثر تفضيلا لدى العاهل الأردني)، تحدثت في عددها الأخير (الجمعة الماضي) عن الأردن واوضاعه الاقتصادية، ووصفت مدينة عمان بانها الاغلى عربيا، بينما الأجور في الأردن هي الأدنى، وتوقفت عند تراجع نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة الى 37 بالمئة، بالمقارنة مع 56 بالمئة في الانتخابات التي سبقتها، رغم ان حركة الاخوان المسلمين، الكتلة الاضخم، شاركت في الأخيرة وقاطعت السابقة، ورسمت صورة غير وردية لاوضاع البلاد السياسية والاقتصادية.
في خطابه الذي القاه العاهل الأردني عبد الله الثاني امام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، قال انه يأتي الى هذا المنبر الاممي بينما تشهد بلاده انتخابات برلمانية حرة في منطقة تعيش الحروب والاضطرابات وانعدام الاستقرار.
العاهل الأردني كان مصيبا فيما قاله، وطرح واقعا حقيقيا لا جدال فيه، ولكن هل يستمر هذا الواقع.. ولمدة كم سنة؟ وهل سيتجاوز الأردن ازماته، وحقول الألغام الإقليمية والدولية التي يسير وسطها على رؤوس أصابع قدميه، ويصل الى بر الأمان سليما معافى؟
نتمنى ذلك..
عبد الباري عطوان