التأم مؤخرا جمع من العرب في العاصمة انواكشوط ، منهم أمراء ورؤساء ورؤساء حكومات ووزراء خارجية ومندوبون عن هذا القائد أو ذاك ممن منعته ظروف ذاتية أو موضوعية من الحضور.
كثر الحديث عن هذه القمة قبل انعقادها وكثرت التساؤلات عما عساها تكون المقاصد والأهداف التي يسعي إلي تحقيقها أولئك الذين أصروا علي عقدها في هذا الزمن العربي البالغ السوء والتردي حيث العربي يقتل العربي بالعشي والإبكار والمال العربي ينفق بسخاء غير مسبوق في تدمير الإنسان العربي و البناء العربي والحضارة العربية وتمزيق النسيج الإجتماعي لهذا المكون العربي أو ذاك بنار فتنة مذهبية لا تبقي ولا تذر.
لم أكن من الحالمين أبدا و ما كنت لأكون اليوم استثناء في هذه اللحظة الأسوأ من حوليات الجامعة العربية الكئيبة والعرجاء أبدا لأنها ببساطة ظلت ناديا للقادة الذين- باستثناءات قلة – كانوا أقرب ما يكونون لحكام دوائر تدور في فلك هذه القوة الإستعمارية أو تلك.
لم يكن الحلم مشروعا في الماضي وهو اليوم يلامس الجنون لأن الذين اجتمعوا في انواكشوط في أكثريتهم ضالعون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، من موقع الفاعل النشط أو المساند له أو واقع المفعول به الذي لا يملك من إرادة الفعل إلا طاعة آمره وحامي سلطانه ولذلك لن أتطرق كثيرا للأنظمة العربية ودورها في محنة الأمة ولكن سأركز علي ما يبدو لي أنه الأخطر وهو فقدان النخب الفكرية لبوصلتها في التعاطي مع الشأن القومي.
يأتي هذا الإجتماع في جو غير مسبوق من الشحن الطائفي والمذهبي يحاول البعض من خلاله أن يؤسس لإقتتال شيعي سني الله وحده أعلم كيف ستكون نتائجه وكيف سينتهي و متي وكم هي الكوارث التي ستنتج عنه.
إن هذا الشحن أخطر بكثير علي الأمة من الحروب الخارجية مهما كانت ضراوتها وهو قبل ذلك مريب في توقيته وأكثر من ذلك في أبعاده ودلالاته خاصة أن الأمة ظلت تحتضن الخلافات الفكرية بقبول وسكينة وهدوء منذ بيعة السقيفة وحتي عهد قريب.
الخلاف بدأ من هنا والتشيع بدأت بواكيره الأولي من هنا وظل الشيعي مختلفا عن السني في بعض التفاصيل و الجميع متفق علي الجوهر و أخذ علماء الشيعة عن علماء السنة وعلماء السنة عن علماء الشيعة.
لو أن هناك جديدا في العقيدة الشيعية يبرر حربنا معهم اليوم أويفسر سكوتنا عنهم بالأمس لكان الأمرمفهوما ولو كنا حاربنا إسرائيل بكل ما أوتينا من قوة لأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا كما ورد صراحة في نص التنزيل لكان الأمر سهلا ولو كنا انتصرنا لكل صرخة مسلم ينادي لقلنا نعم …..فعلها المعتصم
إن الدمار المادي يمكن تعويضه والتغلب علي آثره بشرط أن تبقي البنية الإجتماعية متماسكة كما هو حال الدول التي طالها خراب الحرب العالمية الثانية مثلا، أما الإقتتال الأهلي وخاصة إذا كان بشحنة مذهبية ودينية فمن الصعب بل يكاد يكون من المستحيل أن تندمل جراحه إلا بعد أن يقضي علي أجيال أو علي الأقل الجيل المشارك في اندلاع شرارته الأولي.
قد نفهم أن تشبث الحكام بالسلطة هو البوصلة الوحيدة التي تحدد توجهاتهم وترسم سياساتهم خاصة إذا كان هؤلاء الحكام كما هو حال أغلب حكامنا العرب بعيدين كل البعد عن هموم الأمة وقضاياها، ولكن الأدهي من ذلك أن النخب المثقفة الواعية فقدت البوصلة وسارت تدور في فلك اللاوعي لأن العاقل عندما يسعي لتبرير اللامعقول يضيع العقل والمعقول.
عندما يصدر البعض ممن نصب نفسه إماما و عالما وقد يكون كذلك وله مريدون كثر، الفتوي تلو الأخري بأن الحرب علي ليبيا إلي جانب عتاة الأعداء الغربيين فرض عين علي كل مسلم نكون أمام كل شيء إلا شرع الله القائل ومن يتولهم منكم فإنه منهم…
دم المسلم علي المسلم حرام في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن وفي العراق وغيره بغض النظر عن السياسة وإكراهاتها فهذا حكم الله وجب علي الجميع وسيسأل عنه الجميع يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا دولة ولا أمير ولا سلطان…….
كما أن الخروج علي السلطان حرام مالم يشهر كفرا بواحا بغض النظر عما إذا كان الحاكم يلاقي في نفس الفقيه هوي أم لا ، فحكم الله ليس لأحد حق التصرف فيه أحري تطويعه ليناسب هذه الحالة أو تلك.
بارك هؤلاء الخروج علي السلطان في مصر لما كانت السلطة بيد مبارك وحرموا الإنقلاب علي مرسي وهو خروج أيضا علي السلطان كما كان حالهم في المحاولة الفاشلة علي أردقان في تركيا …..وكل ذلك باسم الشرع !!!!!!!!!!
هناك أزمة عقل والحاجة إلي مزيد من الورع واحترام الناس والرحمة بالمريدين والأتباع خاصة أن الإنسان يصعب عليه كثيرا القبول بتلون الحق والباطل حسب المفتي وعلاقته بموضوع الفتوي ومستوي قربه أو بعده من الحدث وأصحابه لأن الدين أمر مقدس بعيد كل البعد عن السياسة و إكراهاتها ومتغيراتها التي هي في الحقيقة ثابتها الوحيد.
لا يقتصر الخلل علي هذا القسم من أهل الفكر والرأي في مجتمعنا العربي بل إن البعض من كبار أهل الرأي و المشورة من المفكرين القوميون نحوا مناحي في منتهي الغرابة حين انتصروا لحرب لا معني لها في اليمن وذهبوا أبعد من ذلك حين برروا موقفهم بضرورة الحيلولة دون التمدد الصفوي من خلال الحوثيين في اليمن…..لم يكلف الموقعون علي البيان المشهور أنفسهم عناء البحث في التركيبة السكانية والدينية والمذهبية لأهلنا في اليمن وإلا لكان لهم ربما رأي آخر .
لم يكن الفكر القومي أصلا يولي كثير اهتمام للتنوع الثقافي و المذهبي إلا من قبيل كونه عامل إثراء حضاري وصفة مميزة للأمم الحية والمبدعة.
ولم يكن الفكر القومي إقصائيا أبدا لمكون قومي من مكونات الأمة العربية أحري أن يكون قاطرة للشحن الطائفي والمذهبي المميت والذي يراد له أن ينهي ما تبقي من أمتنا العربية وحضارتها.
كما أن استصحاب موقف منفعل من جماعة الإخوان المسلمين طغي علي واجب الرفض للإنقلاب العسكري الذي أطاح بتجربة ديمقراطية فريدة – بغض النظر عن عثراتها- في واحد من أهم الأقطار العربية والإسلامية والتي كانت يمكن أن تكون قاطرة لدمقرطة النظام السياسي العربي والإسلامي بصفة عامة.
ومن أشنع الأمور أن يسكت المثقف القومي بل والإنسان مهما كان وحيث ما كان علي مجازر رابعة و النهضة أحري أن يصور أن النظام القائم علي أرواح الآلاف من الأبرياء يمكن أن يكون له دور إيجابي في تعافي الأمة ونهضتها.
إن سكوت البعض من رجال دين مسلمين ومسيحيين في مصر ومن مؤسساتهم الرسمية و سكوت البعض من قوميين عرب وغيرهم لا لسبب سوي أن الضحايا قد يكونون في غالبيتهم من الإخوان المسلمين يذكر بازدواجية المعايير التي ظللنا وما زلنا نعيبها علي الغرب في نظرته للآخر…..إنه النفاق فالذين سقطوا لم يؤذوا أحدا ولم يقوموا بفعل يجرم إلا أنهم رفضوا انقلابا علي سلطة منتخبة عن جدارة واستحقاق.
إن أزمة العرب لم تعد فقط علي مستوي الأنظمة مع أن ما وصلت إليه هذه الأنظمة من ذل وهوان ما سبقتها إليه أنظمة من قبل ولكن- وهذا هو الأخطر- علي مستوي النخب وأصحاب الفكر…..
كان ينظر إلي المثقف علي أنه ينتج مادة باقية قد تفيد الأجيال وقد تنبه أهل الحكم إلي ضرورة وإمكانية تصويب الخطإ وحتما مهما طال الزمن لا بد من تحقيق الهدف مادام المثقف متصالحا مع نفسه وحريصا علي القيام يدوره قائدا لا مقودا.
إن جمع العناصر الميتة لا يولد حياة وما تحتاجه أمتنا هو أن تتصالح النخب السياسية مع بعضها البعض في إطار مواطنة جامعة تسع الجميع ويري فيها كل واحد نفسه، فالصاروخ الذي يسقط علي حي حلبي يقتل المسيحي و المسلم علي حد سواء وما طال بغداد من دمار لم يسلم منه مؤيد ولا معارض للنظام الوطني الذي كانت هيبته وحدها تكفي لمنع العدو من اختبار قوته.
ينسب لإبن تيمية قوله ألف يوم من سلطان جائر خير من يوم واحد من دون سلطان وهو محق إلي حد كبير حيث عشنا ما آلت إليه دول ما سماه العدو ربيعا عربيا أستبدل دولا وكيانات قائمة وأنظمة حكم يهلل لها بعضنا ويعارضها البعض الآخر بفراغ أصبحت كل قبيلة كيانا وكل مجموعة تبسط سلطتها علي ما أمكنها انتزاعه من خصمها……أصبحنا أمة فاشلة.
إن علينا جميعا أن ندرك أن عدونا الوحيد هو اسرائيل ونحن ملزمون شرعا أن نؤمن بذلك و كل الأعداء الجانبيين مجرد أوهام لأن العداء الدائم هو ذلك المستند علي بعد ثقافي وديني تتعاطاه الأجيال قبولا موروثا لأنه إيمان وما عدا ذلك مجرد تنافس مشروع علي الريادة واحتلال الصدارة بين أمم حية و نشطة بالأمس واليوم وغدا.
علي نخبنا السياسية والفكرية أن تسعي إلي التقريب بين العرب و الجار الإيراني و التركي لأن لا مصلحة أبدا لنا في استعداء هذين الجارين المسلمين القويين رغم ما ألحقته تركيا من دمار بأهلنا في سوريا و ما ألحقته إيران من دمار وقتل بأهلنا في العراق بعد أن مكناها منه وبعد أن دمرناه بأيدينا وشيطنا نظامه الوطني ……..ما كانت إيران لتجرؤ علي العراق أبدا لولا التخاذل بل التآمر العربي.
إن ما يجمعنا بإيران و بتركيا مهما كان الموقف من سياسات أنظمة الحكم فيهما كبير وكبير جدا ، فإلاهنا واحد وقبلتنا واحدة وكتابنا واحد ومناسكنا واحدة أي بمعني آخر لولا اللغة لكانت ثقافتنا واحدة.
إن من حج بيت الله الحرام وتأمل في عديد القوم و تنوعهم في أجناسهم ولغاتهم وعاداتهم وكيف جمعهم مكان وزمان واحد يخطون نفس الخطوات ويرددون نفس الكلمات في لحظة من لحظات البقاء الأزلي قد يكونوا خصوما أشداء ولكن أبدا لا يمكن أن يكونوا أعداء….فعلينا أن نسعي لتقليل الأعداء لا استعداء من نشترك معهم الملة ونتقاسم معهم التاريخ و الجغرافيا
إذا أدرك الجميع الحاجة إلي الإستقرارو لم الشمل و تصحيح الأخطاء وتجاوز أسباب الفرقة والوقوف صفا واحدا في وجه العدو الوحيد الجاثم فوق أرضنا المقدسة نكون قد خطونا خطوة جوهرية في سبيل إعادة مشروعنا النهضوي إلي السكة ولن يتأتي ذلك إلا إذا قبل بعضنا بعضا وتداني الجميع من قوميين و إسلاميين و يساريين إلي ما يجمعهم وما أكثره.