هل يمكن أن يكون العام الجديد والأعوام القادمة سنوات خير على العرب وأوطانهم؟ وهل يمكن تحقيق مستقبلٍ عربيٍّ يكون العرب فيه أفضل حالاً ممّا هم عليه الآن؟!
لعلّ السبب في طرح هذا السؤال عن كيفية تصوّر مصير المستقبل العربي، هو هذا التردّي الحاصل في بلاد العرب، من المحيط إلى الخليج. فنظرةٌ شاملة للواقع العربي الراهن تنذر بأسوأ الاحتمالات والمخاطر. فقلب المنطقة العربية يتهاوى، وأطرافها تتآكل، بينما العقول والكفاءات العربية تهاجر لتعيش في غربة الغرب.
وكأنّ شعوب هذه الأمّة قد اختارت الانتحار البطيء عوضاً عن مداواة جسدها العليل!
ففي فلسطين جرحٌ كبير عمره أكثر من نصف قرن، لكن القيادات الحالية للجسم الفلسطيني اختارت التصارع فيما بينها عوضاً عن التوحّد في مواجهة العدو المحتل، فأصبح المستقبل الفلسطيني مبهماً، وفيه من الكوابيس أكثر ما فيه من الأحلام! أمّا في سوريا والعراق وليبيا واليمن، فنزفٌ يوميٌّ غزير بفعل جراح الفتنة والتدخل الخارجي والفوضى معاً!.
يضاف إلى هذه اللوحة العربية السوداء، ما تعيشه الدول العربية الأخرى من هواجس الإرهاب أو مشاكل الأمن مع الجوار، أو المعاناة من أزماتٍ اقتصادية متراكمة، أو من تصارعٍ أحياناً مع النفس أو مع الخصوم في الداخل!.
وأحسب أنّ المسؤولية عن تردّي هذا الواقع، شاملة شمولية المجتمع العربي بكلّ ما فيه من حكّام ومحكومين، من رسميين وشعبيين، من سلطات ومعارضات، وأخيراً، من مثقفين وغير مثقفين!
وحتى تتحدّد المسؤولية أكثر، فإنّ الأمر ليس “مؤامرات خارجية” أو “مخطّطات صهيونية وأجنبية” فقط، رغم خطورة هذه المخطّطات وتأثيراتها السلبية. لكن موقع العطب هو في “الداخل” العربي الذي أباح ويبيح استباحة “الخارج” لكلّ شؤون العرب وأرضهم ومقدّراتهم.
إنّ بعض المثقفين العرب يعتقدون بأنّ المشكلة تكمن في الحكومات فقط، وبعضهم الآخر يراها في التيارات البديلة عن الأنظمة القائمة.. بينما المهم، أنّ الجميع يشترك في الاتفاق على وجود أزمة كبيرة في الحاضر العربي. فقد يختلف العرب في تحديد طبيعة المشكلة وجذورها، وقد يختلفون في صورة الحل المنشود، لكنّهم يجمعون في الحدّ الأدنى، على المخاطر المحدِقة بمصير المستقبل العربي.
إنّ الأرض البور قد تصطلح إذا كانت هناك إرادة إنسانية فاعلة ومهيّأة لعمل الإصلاح.. لكن تكبر المعضلة حينما لا تكون الأرض بوراً، بل أرض خيرات وثروات، بينما قيادات الشعب هي البور!
إنّ للأمّة العربية حقوقاً على أبنائها المقيمين والمهاجرين، والتحدّيات التي يواجهها العرب الآن وفي المستقبل، تستدعي الآليّة التالية لوقف الانحدار العربي الشامل:
على مستوى الحكومات العربية:
إقرار حقّ المواطن “السائل” و”المحروم”… المواطن “السائل” عن حاضره وعن واقعه.. “السائل” عن مستقبله والمستقبل المجهول لأولاده.. “السائل” عن أسباب الانهيار والتصدّع في المجتمع والوطن.. “السائل” عن هويّته وثقافته.. “السائل” عن لقمة عيشه وعن غياب العدالة في توزيع ثروات وطنه..
والمواطن “المحروم” من حقّه في المشاركة.. من حقّه في التعبير.. ومن حقّه في التنقّل والعيش بكرامة دون خوفٍ أو جوعٍ أو تشرّد..
هذه الحقوق للمواطن العربي “السائل” أو “المحروم”، تتطلّب من الحكومات العربية (وهي هنا ليست في سلّة واحدة بل عليها مسؤولية موحّدة) بأن تقرّر فيما بينها (على غرار ما فعلته حكومات أوروبا الغربية، رغم ما بينها من اختلافات وتاريخ حافل بالصراعات) الحرّيات والحقوق الآتية لأبناء الدول العربية:
(1) حرّية التفكير والمعتقد.
(2) حرّية القول والتعبير.
(3) حرّية المرور والتنقّل بين الدول العربية.
(4) حرّية العمل والاستثمار لأبناء الدول العربية.
أي تطوير شعار مُنظّر الفكر الرأسمالي آدم سميث: “دعه يمرّ.. دعه يعمل”، إلى شعار عربي رباعي يقوم على: “دعه يفكّر.. دعه يقول.. دعه يمرّ.. دعه يعمل” لعموم أتباع الدول العربية! وفي تنفيذ ذلك الشعار، يحافظ العرب على ثرواتهم المالية والبشرية، وتستثمر الدول العربية طاقتها الفكرية والمادية على أرضها، فلا نعيش نشوة الاعتزاز الوطني والقومي كلّما نجح طبيب أو عالم أو كاتب أو رجل أعمال ومال، على أرض غير العرب ولصالح تقدّم مجتمعاتٍ أخرى!!.
إنّ التحدّيات الخطيرة التي تواجه العرب الآن، تتطلّب في الحدّ الأدنى هذه الحرّيات للمواطنين العرب، والتي تستوجب في جزءٍ منها، حدّاً أدنى من التضامن العربي على أسس جديدة، تٌحترَم فيه حدود وسيادة دول الجامعة العربية وحق كل دولة فيها باختيار النظام السياسي الملائم لها، وبما لا يتناقض مع الحرّيات الأربع الواردة أعلاه.
على مستوى المعارضات العربية:
إقرار مبدأ نبذ العنف في عملها السياسي وفي أساليب حراكها من أجل تغيير حكومات، ومهما تعرّضت لعنف سلطوي، واتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعي منها أو بغير وعي- عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية.
ولعلّ من المهمّ أيضاً، أن تدرك المعارضات العربية، أنّ الإصلاح المنشود هو مطلوبٌ لها أولاً، وبأن يبدأ فيها، فالعطب والخلل والعلل، هي في كل المجتمع، لذلك فإنّ الإصلاح المنشود هو للمجتمع كلّه.
ومن يسعى للإصلاح في مجال فكري، فإنّه متمّمٌ في عمله لمن يسعى إليه في مجال سياسي أو إداري أو علمي أو اقتصادي. فتكامل وسائل الإصلاح ومنطلقاته، هو الذي يؤدّي إلى تكامل أهدافه العامّة الشاملة المنشودة.
فحيثما يبدأ الإصلاح، يحقّق دوره بالتكامل مع الجانب الآخر، طالما أنّه يأخذ دور العزف على آلة موسيقية تشترك مع غيرها من الآلات المختلفة في إطار عزف لحنٍ واحد: (الإصلاح الشامل للمجتمع العربي)، ومن ضمن “أوركسترا” واحدة إذا أمكن ذلك أيضاً حيث تحتاج البلاد العربية، إضافةً إلى سلامة الفكر والأساليب والقيادات، إلى التنسيق والتعاون الإيجابي بين قوى الإصلاح فيها.
أخيراً، على مستوى المهاجرين العرب:
لقد توفّرت للمهاجرين العرب فرصة العيش المشترك فيما بينهم بغضّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي إمكانية بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والاجتماعي. لذلك، فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية الإصلاح العربي المنشود، لأنّهم أشبه بنُجاةٍ من سفينة معطبة مهدّدة بالغرق، وهم أدركوا شاطئ البر والأمان هنا أو هناك، لكنّهم تركوا خلفهم في عرض البحر، أهلاً وأقارب وأصدقاء وجيراناً وممتلكات، تتخبّطهم كلَّ يوم الأمواج العاتية. ولن يكفي الجلوس على مقاهي شاطئ البر الآمن لتحليل اتجاه الرياح ومدى مسؤولية ربّان السفينة أو مصيرها، لن يكفي كلُّ ذلك لإنقاذ من وما تركوه خلفهم، بل إنّ مسؤوليتهم هي في الانضمام لطاقم المصلحين للسفينة المتواجدين عليها.
إنّ مأساة الأمّة تكبر يوماً بعد يوم، ليس فقط بسبب ما يحدث فيها، بل أيضاً نتيجة ما يخرج منها من كفاءات وأموال وأدمغة…
إنّ التكامل الحاصل بين الولايات الخمسين الأميركية، يجعل صاحب الكفاءة أو رجل الأعمال الأميركي يهاجر من ولاية، إذا اضطربت اجتماعياً أو أمنياً، إلى ولاية أميركية أخرى.. كذلك الحال الآن بين دول الاتحاد الأوروبي. فهي أممٌ تحتفظ بأدمغتها وأموالها وبشبابها وخبراتها، فلا تنضب ولا تعجز ولا تنتحر!
بينما الأرض العربية تجفّ وتنضب “كفائياً” ومالياً قبل أن تجفّ وتنضب المياه وآبار النفط فيها.
فما أحوج هذه الأمّة إلى “عمل نهضوي عربي شامل” يحقّق مستقبلاً لا تتلازم فيه الأرض البور مع البشر البور!
وعن هذا “المشروع العربي النهضوي” حديث آخر.
صبحي غندور*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن.