شاركت نخبة من الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين والجيوسياسيين الروس في ملتقى موسع بموسكو ركز على تحليل ما أعلنته القيادة الروسية من نيتها إعادة توجيه أولوياتها من الغرب إلى الشرق.
وخطط القائمون على الاجتماع الموسع الـ23 لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية (وهو منظمة غير حكومية يشارك فيها رجال سياسة مخضرمون ورجال أعمال كبار وخبراء مشهورون)، للتركيز حصريا على التقارب الأخير بين روسيا والصين، على خلفية تنامي الفتور في العلاقات بين روسيا والغرب، لكن حادثة إسقاط قاذفة "سو-24" الروسية في أجواء سوريا من قبل سلاح الجو التركي، دفعت بهم إلى تغيير جدول أعمال الملتقى وتكريس الجزء الأول من المناقشات والتي جرت يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني، للتغيرات العالمية ومكان روسيا في العالم المتغير.
وأكد الخبراء بالإجماع أن نظرية "القوة الناعمة" التي سبق للعديد من الدول أن اعتمدتها لنشر نفوذها في العالم وتحقيق طموحاتها عن طريق التوسع الثقافي والاقتصادي والقيم، بدأت تفقد شعبيتها. وبدأ العالم عودته إلى مقاربة "القوة الخشنة" التقليدية (أي الاعتماد على القوة العسكرية)، وهذا ما سمح لروسيا بتحقيق نجاحات كبيرة على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة.
لكن الخبراء وصفوا نجاحات روسيا الأخيرة، والتي كسبتها بفضل شجاعتها في الدفاع عن مصالحها في أوكرانيا والشرق الأوسط والتصدي لتوسيع النفوذ الغربي، بالتكتيكية. وأكدوا أن على القيادة الروسية أن تطبق حزمة من الإصلاحات الحساسة لكي تجد للبلاد موقعا قويا ومستقرا على الساحة الدولية. وفي هذا السياق، نصح الخبراء بتبني المبدأ السوفيتي القديم - تجنب أي صدام عسكري مع الغرب بأي ثمن.
وحذر الخبراء من أن الاقتصاد الروسي غير مستعد لمواجهة طويلة الأمد مع الغرب، في الوقت الذي تبقى النخبة السياسية في البلاد غير جاهزة أيضا للانخراط في مثل هذه المواجهة.
ولذلك تتطلب مهمة تحويل روسيا إلى لاعب كامل الحقوق في الساحة الدولية تشكيل قاعدة اقتصادية تكاملية خاصة بها قادرة على التنافس مع النموذجين الأوروبي والأمريكي على نطاق العالمي.
وحتى في حال نجاح موسكو في الشروع في تشكيل مثل هذه القاعدة، إلا أن الطريق إلى تحقيق الحلم سيبقى محفوفا بالمخاطر، فيما يكمن الخطر الأكبر في الانعزال الاقتصادي.
وهناك مهمة حيوية أخرى على هذا الطريق الطويل، تتعلق بوضع استراتيجية سياسية دقيقة وواضحة. وعلى الرغم مما حققته موسكو من النجاحات التكتيكية، إلا أن تلك النجاحات لن تعوض عن فشل المشروع الاستراتيجي الأساسي الذي تبنته روسيا منذ تسعينيات القرن الماضي- التكامل مع الحضارة الغربية، ومع فشل "خطة بي" البديلة – إعادة تكامل جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
ولبحث هذه الاستراتيجية المستقبلية كرس الخبراء الجزء الثاني من مناقشاتهم، عندما ركزوا على دور الصين في العالم المتغير ومستقبل العلاقات بين موسكو وبكين.
واتفق معظم الخبراء على أن الصين تحولت إلى قوة عظمى بكل معنى الكلمة، ولم تعد مجرد "قوة إقليمية".
بالإضافة إلى وتائر النمو المتسارعة، لا تخشى القيادة الصينية من اللجوء إلى أساليب يعتبرها الغرب "غير أخلاقية"، بدءا من اختبارات الهندسة الوراثية، بهدف تحويل الجنود الصينيين إلى "محاربي مستقبل" يتمتعون بقدرات فائقة على غرار أبطال رسوم "كوميكس" الأمريكية، وصولا إلى استهانة بكين بما يخشى منه العالم من مخاطر التغير المناخي وإصرارها على استخدام مصادر الطاقة الرخيصة مثل الفحم، لضمان القدرة التنافسية للسلع الصينية على السوق العالمية.
وعلى الرغم مما قامت به القيادة الروسية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، من خطوات ترمي إلى التقارب مع الصين، إلا أن معظم الخبراء يرون أن العلاقات الشخصية بين الرئيس بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ أفضل بكثير من العلاقات الحقيقية بين البلدين.
وفي هذا السياق أشار الخبراء إلى رفض المصارف الصينية في العديد من الأحيان إقراض بنوك روسية خشية من العقوبات الغربية.
وقال الخبير فيودور لوكيانوف رئيس هيئة الرئاسة في مجلس السياسة الخارجية والدفاعية في مقابلة مع موقع "لينتا رو" الإلكتروني: "يبقى التحول الروسي إلى الغرب مجرد كلام، وهو قضية كبيرة.. لا مفر من تنامي أهمية المسار الشرقي في السياسية، لكن المسألة تكمن في طريقة بناء العلاقات.. وإذا أبدينا تقاعسا في الوقت الراهن، فسنضطر في المستقبل للعمل في ظروف يفرض فيها الطرف الآخر قواعد تعامل خاصة به علينا".
وحذر الخبراء من أن التكامل الاقتصادي بين روسيا والصين أمر قليل الاحتمال، وذلك لأن موسكو لن تقبل أبدا دور "الشريك الأصغر" في التحالف، أما حالة الاقتصاد الروسي فلن تسمح بأي نوع آخر من التكامل الاقتصادي بين البلدين.
وقال لوكيانوف في هذا السياق: "يزيد الغموض الذي تتميز به المرحلة الراهنة حتى على الغموض الذي عاشته البلاد في تسعينيات القرن الماضي".
المصدر: لينتا رو