إن المعونات الإنسانية العاجلة والتعافي المبكر وإعادة التعمير، التي هي العنوان العريض لأدبيات المنظومة الإنسانية، هي حقٌ إنساني لا ينبغي تأكيدهُ لأنهُ لا شك فيه. لكنهُ في غزة تحديداً و فلسطين عموماً هو الضد المباشر للصهيونية التي تبذل ما بقواها لإنكارهِ ومنع وصوله للفلسطينيين. كلما كانت الصهيونية مستحكمةً ومتحكمةً فهي تفرض التعذيب والتدمير والإبادة شريعةً لوجودها. ولا تختلف الأهداف التنموية المستدامة السبع عشرة التي أقرتها الدول وتتبعها الأمم المتحدة في أحقية الناس بها، لكنها لا يجري تحقيقها في الحالة الفلسطينية لذات السبب، التحكم الصهيوني.
فإن كانت فلسطين هي نبع الحياة فالصهيونية هي بثرةُ الموت. يجب أن يعلم العرب أنهم والصهيونية في معركةٍ وجوديةٍ حول حقنا في البقاء والنماء. قد يكون أبلغَ دليلٍ على هذا الصراع، إضافةً لقتل الآلاف، هو تعمد قتل أكثر من سبعين رئيس وعميد وأستاذ جامعة في غزة يشكلون أعمدة الفكر والنماء والمستقبل الفلسطيني وقتل أطباء استشاريين كثر، كما قال الدكتور غسان أبو ستة، استغرق الواحد منهم لا أقل من سبع عشرة عاماً من الخبرة العملية ليصل لمكانة الاستشاري. تم قتلهم عمداً لتقويض منظومة الإغاثة الفلسطينية وإعادة إعمار القطاع الصحي في غزة.
نحن نعلم أن غزة لم تكن واحة تنمية منذ عام ١٩٦٧ وازدادت عذاباً ببدايات الألفية الثانية. صدر قبل أيام (٣١ يناير ٢٠٢٤) تقريرٌ هام عن التدهور الإقتصادي و الإجتماعي في غزة أعدته الأونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) تشرحُ فيهِ الوضع الإقتصادي و الإجتماعي قبل وبعد طوفان الأقصى. و اقتبس منه هذه السطور بترجمةٍ غير حرفية:
“لقد شُنَّت عدة حملات عسكرية إسرائيلية في غزة في الأعوام ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و ٢٠١٤ و ٢٠٢١ و مايو ٢٠٢٣ و أكتوبر ٢٠٢٣ أدت للنزوح وتدمير البنى التحتية و المساكن و رؤوس الأموال و المقتنيات الإنتاجية مثل الأراضي الزراعية و المحاصيل و حظائر المواشي والبيوت المحمية و أشجار الفواكه والمخازن والقوارب و معدات الصيد والصناعات الزراعية وقنوات الري ومحطات المياه وشبكة الكهرباء والإنترنيت والمصانع والمباني التجارية و السكنية و المنشآت التعليمية و المراكز الصحية. و لم تُعادَ كثيرٌ من هذه المرافق لسابق عهدها بحلول أكتوبر ٢٠٢٣ بينما يتكدس السكان في منطقة هي الأكثر ازدحاماً بالسكان في العالم تحت ظروف نزاعٍ مزمنٍ دون مصادر مياه مناسبة و دون كهرباء لنصف اليوم أو مرافق صرف صحي كافية. إن نصف من هم في سن العمل عاطلين عن العمل و ثلثي السكان فقراء. وتوضح المؤشرات الإقتصادية قبل و بعد الحصار المفروض ظاهرةَ “تعويقَ تنميةَ (de-development)” غزة، ففي وقت إنشاء السلطة الفلسطينية في ١٩٩٤ كان مستوى المعيشة في غزة مساوياً لمستوى معيشة الضفة الغربية لكن حصة الفرد من الناتج المحلي الكلي لغزة مقارنةً بذاك للضفة الغربية تدهور من التساوي في ٩٤ إلى ٤٤٪ منه في ٠٧ و إلى ٢٨٪ في ٢٠٢٢. و بحسب صندوق النقد الدولي فإن العملية العسكرية في ٢٠١٤ استهلكت ٨٥٪ من مخزون رأس المال الذي نجا من العمليات السابقة. وخلال خمس عشرة عاماً ابتعدت غزة عن أجندة التنمية وباتت منطقةَ كارثةٍ إنسانية يعتمد ٨٠٪ من سكانها على المعونات الدولية”. نهاية الاقتباس.
إنها كما تقول الأمم المتحدة “أزمةٌ متراكمةٌ مزمنةٌ Protracted Crisis”. وعند مراجعتنا للمعالجات التي تتبعها الأمم المتحدة والمنظومة الإنسانية نراها تنص على تقييمٍ متعدد القطاعات يتبعه خطة عمل إنسانية والحصول على التمويل، عبر مؤتمرات المانحين، ثم التنفيذ، لمرحلتين ذاتي أسبقية هما الإغاثة المنقذة للحياة و التعافي المبكر. أما إعادة الإعمار فلا يأتي ذكرها تلقائياً في هذه المؤتمرات والخطط لخضوع هذا البند للمناكفات السياسية غالباً. ومن غير شك أن منظمات الأمم المتحدة كَوَّنَتْ صورةً لا تخفى عن حاجة غزة و هي تنتظر انبعاث خطةَ تحركٍ جامعة ومنسقة عند توقف القتال للبدء بالإغاثة الكثيفة، مع أنها توصلُ ما تستطيع من معونات عبر منافذ مقيدة وإجراءات معيقة ومخاطر أمنية. لكن التقييم عن بعد، الذي تعتمد عليه المنظومة الإنسانية الآن، والأونكتاد في تقريرها، ليس بدقة التقييم المكاني المباشر والمفصل والذي ينبغي القيام به كأساسٍ أوضح لخطةِ وجدولِ تمويلٍ مقنع. و في أحسن الظروف المأساوية الإنسانية، إن كان هناك ما هو أحسن في ظروف المآسي البشرية، أؤكد عن تجارب صعوبة التعامل السلس مع هذا الإجراء الأممي من الألف للياء. فكيف سيكون في حالة غزة؟ هل ستسمح الصهيونية بتقييمٍ محايدٍ و مفصل و بتدفق المساعدات دون عراقيل؟ إن الصهيونية هي طرفٌ محتلٌ و سبب الدمار الإبادي لكن هناك من الأطراف الأُخرى الداعمة للصهيونية، والمحايدة التي تنتظر والمعارضة المكبلة عن ما يوقف الإبادة، و هم كلهم من الفاعلين في المسار الإنساني سلباً وإيجاباً، و هناك أساساً المستفيدين من أهل غزة والسلطة الحاكمة، والمجاميع المدنية، و المنفذين للخطة، محليين و دوليين، والدول المانحة والدول المحيطة. فهل ستسمح الصهيونية ومؤيديها بحريةِ عملٍ إنساني متعدد القطاعات يقود للإعمار وهي التي تحاصر غزة وتبيدها ؟ وماذا عند عرقلة العمل الإنساني لو بدأَ؟ ألم نرَ شاحنةً للأنروا دمرتها بارجة صهيونية قبل أيام دون أدنى رد فعل من أحد؟
أما الأنروا التي استمرت سيدةَ العمل الإنساني للفلسطينيين لعقود فهي اليوم تحت خطر التفتيت، فالصهيونية تطلب إزاحتها من الصورة، وإن لم يكن بالكامل، فالمقبول قد يكون هو تعديل مهامها لقص أجنحتها مما يعني انحسار أعمالها عن غزة. المانحون الأعلى عطاءً للأونروا علقوا ما يصل ل ٨٠٪ من ميزانيتها إلى أن يقتنعوا أن الأنروا “نظيفةٌ من الإرهابيين”، أشخاصاً كانوا أم منهجيةً في المدارس. وفي المقابل يطلب القرار ٢٧٢٠ لمجلس الأمن (المُقَّر في ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٣) من الأمين العام تعيين منسقاً أعلى لإغاثة إعمار غزة لكي “ييسر وينسق ويُقَيِّم ويتحقق في غزة من الطابع الإنساني لكل الشحنات الإنسانية الآتية من بلدان ليست طرفاً في النزاع”. بدا لي، وسألتُ إن كان، هذا التعيين يزيح الأنروا من الساحة. وبحثت ملياً في فقرات القرار فلم أجد عبارة “إعادة إعمار” إلا تلميحاً في الفقرة التنفيذية الثالثة حيث طلب القرار توفير مواد ومعدات لإصلاح البنية الأساسية الضرورية لتوفير الخدمات الملحة، و يإحدى الفقرات الابتدائية شدد القرار على أهمية احترام وحماية المنافذ الحدودية البرية والبحرية ومرافقها المستخدمة لتسليم معونات إنسانية بالكم المطلوب. فهل يعني هذا أن هناك نيةً ما في هذا القرار لتحجيم الأنروا في غزة و استبدالها بآلية تنسيقٍ أممية تكون بالذهن المناوئ لها أعلى مستوىً وأقدر على تفادي الاتهامات المتكررة للأنروا؟ هذا مع تأكيد السيدة سيغريد كاغ و غيرها أن لا أحد يقوى على الحلول محل الأنروا. لكن الهجمة على الأنروا شرسة ووقحة وذات هدف شرير وقد تُقنع الأمم المتحدة (و التبرير الحاضر قد يكون من أجل حاجة غزة الملحة) أن تقبل بالخيار الثاني: الأنروا للإقليم في الضفة والأردن ولبنان وسوريا، و الجهاز التنسيقي حسب القرار ٢٧٢٠ يبقى في غزة. قد يكون. والخيار الآخر هو بقاء الأنروا في غزة لكن تحت رقابةٍ غير مسبوقة من قبل المنسق الأعلى. لننتظر رأي اللجنة التي عينها الأمين العام قبل أيام لتقييم عمل الأنروا. مع العلم أن التعليم والتدريب المهني وخدمات البنية الأساسية التي قدمتها الأنروا لسنين طويلة هي ركنٌ لا يمكن إنكاره في إعمار غزة و تفتيت أو إقصاء أو تحجيم الأنروا له عواقب ليس فقط على حجم عملها ولكن كذلك على حجم العمالة الفلسطينية لديها التي قد تصبح بلا عمل.
إذاً نحن في وضعٍ إغاثيٍّ مأساوي نتيجةَ حربٍ إباديةٍ و بوجود فاعلين وسياسات ومصالح تعمل ليس فقط تحت النار ولكن بالنار ذاتها لتحقيق أهدافها: الصهيونية بكل أطرافها للتدمير والإفناء، و غزة المقاومة للتحرير والبناء. ولنتخيل حجم العمل المطلوب الآن وبعد وقف الحرب: أولاً إغاثة إنسانية متواصلة لا تفقد الزخم لأشهر وربما سنوات عبر البر والبحر والجو تحمل ما يحتاجه سكان غزة ليبقوا أحياءً، مع، ثانياً، وبالتوازي مع وقف القتال، حملات متواصلة للتعافي السريع للبنية التحتية ولخلق فرص العمل و من ثم ثالثاً إعادة الإعمار. هذه العمليات تستدعي تناسقاً وتوافقاً سياسياً وعملياتياً وتعاوناً بين مانح ومنفذ ومستفيد ومحتل فهل هذا ممكن؟
هذا مع التذكير أن إعادة الإعمار لم تحدث بعد إعتداء ٢٠١٥، وأن حجم دمار ما بعد أكتوبر ٢٠٢٣ أشد وأعتى، فمن سيقوم بالإعمار ومن سيموله وماذا سيتم إعماره وهل ستسمح الصهيونية به؟ كما أن السؤال المطروح دائماً هو عن الشك بإعادة إعمار البنية المقاومة، مثل الأنفاق ومعامل السلاح، فهي على رأس القائمة الصهيونية و مؤيديها، فهل نتخيل السماح بدخول مواد أولية لها استخدامات مزدوجة مثل الإسمنت والحديد بأشكالهما وهي مواد إعمار أساسية؟ وكيف، إن صففنا هذا السؤال جانباً، سيعاد بناء المساكن للمليون نازح و بناء المستشفيات والمدارس والمرافق دون مواد أولية وتجهيزات خاصة بها في فترةٍ قياسيةٍ سريعة؟ ومن سيقرر ماذا سيعمر أولاً؟ والقرار ٢٧٢٠ ينص على الرقابة لاستعمالات المعونات، وبضمنها الإعمار مما سيجعل لكل مانح ولمجلس الأمن والأمم المتحدة أقوالا وأفعالاً تجاه ما يمكن وما لا يمكن إعماره.
ثم إن الحصول على التمويل للإعمار لن يكون بسهولة تمويل إغاثة إسعافية لأن الصهيونية لم تتردد سابقاً وحالياً ومستقبلاً في تدمير ما بناه المانح من المطار للميناء ومرافق الماء والكهرباء والصحة والتعليم، بل حتى المقابر. فهل سيطلب المانح ضماناً من الصهيونية لعدم تدمير ما سيبنيه؟ وهل لن يكون للمانح شروط مثل أين وكيف يستخدم تمويله للإعمار، ومع أن المساعدات الإنسانية لا يجب أن تكون مشروطة فإن مانحين كبار يشترطون أين تذهب المعونات ولا تستطيع الأمم المتحدة الرفض؟ وهل سيتقدم مستثمرون من القطاع الخاص لتمويل إعادة الإعمار مع معرفة أن رأس مال المستثمر جبان؟
وما هو الحد الأدنى المقبول من الإغاثة والتعافي المبكر وإعادة الإعمار؟ نعود للأونكتاد ونقتبس: “…. على افتراض انتهاء العملية العسكرية فوراً وبدء إعادة الإعمار وأن ينمو الناتج المحلي ١٠٪ سنوياً مع زيادة سكانية سنوية تعادل ٢،٨٪ فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي سيعود لمستوى ٢٠٢٢ بحلول عام ٢٠٢٨ و لمستوى ٢٠٠٦ بحلول عام ٢٠٣٥ و قد يصل لمستوى عام ١٩٩٤ بحلول عام ٢٠٣٧”. الأونكتاد تتوقع أن عودةً لمستويات ما قبل الحرب في ،٢٠٢٢ بحسب نمو الناتج المحلي المرتفع والمنخفض، قد تستغرق ما بين ١١ و ٦٨ عاماً. ولا يعني هذا إعماراً لأن تلك المستويات في ٢٠٢٢ لم تكن هي الأمثل. هل سيصبر الناس كل هذا الوقت؟
أخشى أننا أمام معادلة صعبة للغاية. و الأسئلة تتراكم وتبحث عن إجابات لا نملكها:
بما أن إعادة الإعمار في العرف الدولي ليست إغاثةً إنسانيةً مما يعني انتظاراً قد يطول ما لم تبدأ بقدرات غزة الذاتية وهي كما نعلم فقيرة، فهل الحل هو المزيد من المخيمات كما رأينا في دارفور السودان؟ ماذا عن التعليم بكل مراحله وتلك الجامعات المدمرة؟
الإعمار يحتاج استقراراً والاستقرار غير مضمون بوجود الصهيونية متحفزةً للتدمير و المقاومة متحفزةً للتحرير؟
من أين ستأتي طمأنينة المستثمر و المانح بغياب الضمانات لبقاء الاستثمار دون تدمير؟
ما هو دور الأمم المتحدة على ضوء تعدد جهاتها و تهديد بعضها ورفع قيمة بعضها؟
كيف يتواءم الحال الغوثي مع معابر مغلقة و اقتصاص مساحات لإقامة حزام عازل و كثافة سكانية دون مأوى و بطالة وفقر؟ هل سيكتفي المجتمع الدولي بوصول غزة حد الكفاف من المعونات؟ أم أن الوصول لحد الكفاية بمقدورها؟
ما هي استراتيجية المقاومة؟ هل هي الاستمرار بالمقاومة بأي ثمن؟ أم هي هدنة طويلة لالتقاط الأنفاس يتخللها بعض راحة وبعض إعمار؟ علماً أن المجتمع الدولي المانح لن يرضى بوجود مشاعر فاعلة و جهود وطنية مقاومة عملية مع إعادة إعمار. فإن أرادت المقاومة الإعمار فعليها الالتزام السياسي بما يمليه هذا المجتمع وعندها ربما يأتي رأس المال. و إلا فلا إعمار.
إن سيغريد كاغ (المنسق الأعلى) و فيليپ لازاريني (مفوض الأنروا) و مارتن غريفيثس (وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية) هم اليوم رؤوس مثلث الإغاثة، وربما كذلك ريبيكا غرينسبان (مديرة الأونكتاد)و يجب أن يُسألوا عن تصورهم للإغاثة وإعادة الإعمار الذي يجب أن يبدأ ويستمر بحياديةٍ كاملة. لكنهم ليسوا الوحيدين، فالفلسطينيين أمام مسؤوليةٍ جماعية لإغاثة عرقهم من الفناء وترك هذه المهمة لغيرهم عارٌ و ذنبٌ فإن لم يودوا أو يستطيعوا رد العدوان بالنار فلا أقل من بذل الجهود للإغاثة بكل الوسائل و إعادة البناء مهما كان حجم التدمير الآنيّ و مخاوف التدمير المستقبلي. نحن عُمَّار الأرض و نحن من يرثها.
علي الزعتري دبلوماسي أٌممي سابق
الأردن