الفصل الثالث : الخروج من المخيمات
كان هذامن جملة ماقد تحصلت عليه من أخبار عن تلك الحركات مضاف إليه جملة ما كنت أحدث به نفسي أثناء وجودي في تلك المخيمات التي طال بقائي فيها ولم يلح في الأفق القريب ولا حتى البعيد من حل لمشاكلنا نحن سكان تلك المخيمات يومئذ إلا أن نفسي التي تعودت أن أدعوها للحوار معها في كلما جد علي جديد ، بادرتني هذه المرة ودعتني بما يشبه الهمس الداخلي من اجل الذهاب الى مكان هادئ نختليا فيه بعيدا عن أنظار الفضوليين من سكان المخيمات و كذا زوارهم , ولما صرنا وحدنا فقالت لي بالحرف الواحد وبدون مقدمات ماذا تنتظر يافلان في المخيمات البائسة هذه ، بعد أن زال عنك كابوس الخطر البغيض الذي قد صاحبك منذ الأحداث الأخيرة . أترضى لنفسك بأن تبقى سجينا اتكاليا تنتظر معواعيد عرقوب تلك التي تبتلعها تخيالات السراب والنسيان ! فقلت لها فماذا تريدين مني أن أعمل ولم أفعله من قبل . فقالت لي فكل شيئ أحسن من الجلوس في وكري الذل والعار هذين ، ولو كان ذلك بالذهاب إلى المقاطعة السادسة . رغم قلة ما في اليد، فإن ذلك أحسن بكثير من البقاء هنا. فقلت لها فيا نفس انصفيني فلم الإستعجال؟ وهل فيه من بديل أحسن من المخيمات ؟فقالت فيه الحرية ثم فضل الله الذي لا ينضب معينه أبدا ! وأنت الذي عودتني سابقا وطيلة شراكتنا أنا وأنت على عدم الأ تكالية وأننا لا ننتظر ما عند الناس . ضف إلى ذلك أنه بإ مكانك الآن من جديد أن تجد عملا ملائما فلربما هذه المرة في المقاطعة السادسة ذاتها فمن يدري !
كما أنه بامكانك ايضا ان تستعيد كل ذكرياتك القديمة في تلك المقاطعة لكي تتسلى بها عن هذا البؤس المقيت في هذه المخيمات ، ثم أردفت قائلة ألا تتذكر سهرات الليل الراجلة تلك والسير على الأقدام في أزقة المدينة وهواها العليل و كذا أحلام اليقظة تلك التي تصاحب المتجولين ليلا في شوارع تلك المدينة الساحرة ،فكل شيئ أفضل لك بكثير من مواعيد عرقوب تلك الكاذبة .
طال الحديث مع نفسي ليلتئذ هذه المرة وقد تطرقنا لكل الإحتمالات المناسبة الشئ الذي قد كان كافيا في حد ذاته لإقناعي بالخروج من المخيمات ودون طلب للإذن بذلك, ولم أكلف نفسي عناء مجرد ترك عنواني المحتمل لدى الهيآت أواللجان المشرفة على تلك الخيمات ،حيث بدأت
أدبر شؤني بادئا من الصفر كعادتي في كل مرة يحصل لي تحول ما في حياتي .
فقلت له فهلا تركت لدى إدارة المخيمات ملفا من أجل المساعدة مستقبلا من إدارة الدمج, فقال لم أفعل شيئا من ذلك القبيل لأنني لا أعرف مبدئيا كيف يعد الملف ولا كيف يوضع ولا ما يتطلب كل ذلك ، مع عدم ثقتي في من سيوضع لديه ذلك الملف لو وجد أصلا.
فهلا قلت لك سابقا بأني لم أقم بإعداد أي ورقة رسمية من الإدارة العامة سوى بطاقة تعريف قد حصلت عليها قديما من السفارة الموريتانية في داكار في أيام سنوات الأستقلال الأولى ، ولكو ني كذلك أيضا قد حاولت سابقا الحصول على جواز سفر وفشلت ، لكون الأمر يحتاج إلى رشوة أو تدخل الوسطاء وهذان بالنسبة لي( كبريت احمر يذكر و لا يرى) ! وبسبب تلك الإستحالة فأنا الآن للأسف لا أتوفر عليه من الأراق الثبوتية سوى بطاقة تعريف منتهية الصلاحية منذ سنوات ! فكيف والحال كما ترى أعد ملفا كاملا وأضعه لدى إدارة الدمج وخصوصا في هذا الظرف الصعب بالذات والذي اطلعتك على بعض من تفاصيله !
إذن فلقد تركت مجرد التفكير في ذلك الموضوع وذهبت لا الوي على شيئ أبحث عن مأوى مستقل لأقيم فيه مع نفسي أحدثها فيه وتحدثني لأن مثلي يصعب عليه مساكنة غيره إذالم يكن ذلك الغير إبنا أو أخا شقيقا !
وبعد جهد جهيد من البحث و التنقيب عن سكن أقيم فيه وخلال مدة قد كنت خلالها ابيت خارج المدينة على الكثبان الرملية ، حتى إهتديت أخيرا الى زميل قديم هو صاحب هذا الكوخ يدعى لقظف ولد أمبارك ، وقد عرفته منذ إقامتي الأولى في السنغال ، ونحن شبابا وقد حصلت بيننا يومئذ صداقة متينة لم يفنيها الزمن بعد . وصرت بعد حصولي على سكني المتواضع هذا أبحث عن عمل طيلة النهار وأحاول التسلية ليلا في المقاطعة السادسة كعادتي القديمة ، وذلك رغم بعدها عن مقر سكني هذا ، حتى أني حوا لت إيجاد بديل عن المقاطعة السادسة في محيط مقر إقامتي ولكن وجدت ذلك شبه مستحيل ، إلا أني للأسف لاحظت أن المقاطعة السادسة هي الأخرى قد تغيرت ولم تعد هي كما كانت من بساطة سكانها حيث تركتهم وقد كان بأمكاني تمثيل الأدوار الشبابية عليهم بل يخيل إلي بأنها حتى أرضها قد تغيرت وازدادت سوادا جراء بيع الفحم في شوارعها وساحاتها العامة ,كما تغير سكانها وصارت بيوتاتهم التي كانت مفتوحة للغرباء أكثر إنفتاحا وأقل حشمة ولكن بشروط غير متوفرة لدي !
كما أنه لم يعد بالإمكان خداع أهلها لانهم بمجرد التطلع في صفحة وجهك حتى سيعرفون ما هو مستواك المالي ووجهتك دونما حاجة إلى سؤالك . كما لاحظت أنني أنا الآخر قد تغيرت أيضا كثيرا ، وكاد عمري يتضاعف بسبب الأحداث الأخيرة في السنغال ، ولم أعد أصلح لتمثيل تلك الأدوار غير المحترمة ، بسبب سني المتقدمة كما ترى يا أنت. قلت لي ما إسمك ؟ فقلت له إسمي إسلمو ولد مانا ولقد قطعت تطلعه ذلك الذي ربما يخرجه عن الموضوع وبالتالي يقطع شريط ذكرياته القديمة مرة أخرى ، وذلك بمناولتي أياه كأسه الثانية ، حيث رشف منها مرتين أو ثلاثا بتتابع وبصوت يشبه شرب الإبل العطشى للماء العذب ، وقال يا سيد الفضوليين إني بعد عودتي الأخيرة هذه إلى الوطن بدأت تلح علي من جديد ، رغم كو نها قد راودتني من قبل سفري الأخير إلى السنغال.
فقلت له فلم أفهم جيدا ما ذا تقصد بكلمة (تلح علي ) فقال بأنه سبق له أن فكر في ممارسة التسول قبل تفاقم الأوضاع الأخيرة ، وحتى قبل سفره الأخير إلى السينغال ، وذلك ربما من أجل أن يبقى قريبا من المقاطعة السادسة البغيضة على عقله والعزيزة على مشاعره في نفس الوقت أيضا وذلك بسبب أجوائها المتميزة التي تغري بكل سلوك وذلك بحسب ما تبطن كل نفس من خير أو شر، وكذلك أيضا بسبب عدم حصوله على أي عمل !
ولقد بدأ حينها فجأة وعلى غير ما كنت أتوقع منه بادي الجد ظاهره من خلال حديثه معي ، وذلك بتبابع أنفاسه كمن كان يطلع سلام طويلة . وبدأت جمل كلاماته تقصر وتحد نبرات صوته وكأنه لم يكن هو ذلك الذي كان أمامي يحدثني منذ لحظات قليلة بأريحية تامة ثم قد صار وكأنه شخص آخر لا أكاد أعرفه البتة !
(يتبع)