نجحت العديد من دول غرب إفريقيا في تنظيم انتخابات شفافة إلى حد ما، وأوصلت البعض إلى الحكم وبطرق سلمية وانتخابية، لكنها مع ذلك فشلت في إرساء بنية تحتية ديمقراطية صلبة. ومرد ذلك إلى اهتمام النظم الإفريقية بالشكل دون الجوهر، وتركيزها على الترقيع بدل الإصلاح الشامل، وإهمالها لبناء الأحزاب والتنظيمات المدنية القوية والتي هي الأساس لكل بناء ديمقراطي سليم.
في دراستي بجامعة أليكانت (إسبانيا)، كانت من بين المواد الاختيارية في تخصص الترجمة مادة تسمى (العالم العربي في القرن الواحد والعشرين)، يدرسها أستاذ متجول يقيم في مدريد، ويدرس في جامعات إسبانية مختلفة. ولما تعرّفت عليه، تعرفت على إنسان ذكي وعلى درجة كبيرة من الاطلاع، ومع ذلك مرح وخفيف وبه حس دعابة. وكنا حينها في مسلسل الانتقال الديمقراطي (٢٠٠٦)، فكانت الفرصة مواتية ليكلفني بإعداد بحث عن مآلات هذا الانتقال؟ وهل ستنتقل البلاد إلى المعسكر الديمقراطي وما هي السيناريوهات المحتملة لذلك؟
لإعداد بحث أكاديمي، عليك أن تطالع فهرسا بالمراجع والمصادر وسواء في ذلك الكتب أو المقالات أو المجلات العلمية. وأتذكر أنني اطلعت على بحث لأستاذ موريتاني يقيم ويدرّس في الولايات المتحدة يسمى (بوبكر انداي؟؟) على ما أظن ولست متأكدا. وكان بحثه بالانكليزية، ولم أكن حينها على تماس مع اللسان الانكليزي، لكن لأهمية بحثه وارتباطه بموضوع بحثي، فقد اجتهدت حتى لم يبق منه شيء إلا ووقفت عليه وفهمته.
ما يهمنا في البحث المذكور هو قولة أنداي في معرض حديثه عن مآلات الانتقال الديمقراطي بعد انقلاب ٢٠٠٥، إن هشاشة البناء الحزبي والنقابي والمدني لا تبشر بأن يكون هناك أي ضمان لانتقال ديمقراطي جدي ومستديم. فكل الطيف السياسي حُشر ووقع على أجندة ومواعيد انتخابية من دون أن يتم إشراكه في أي شيء، ولم يبد أي مقاومة أو اعتراض، وهذا بحسب بوبكر سذاجة وقلة رشد، فكان عليهم أن يبدو بعض الصلابة وأن لا يتركوا للمجلس العسكري أن يفصل الأمر على مقاسه، كان عليهم أن يكونوا أكثر ندية وأكثر حضورا.
تنظم الانتخابات في مالي وفي كل دول غرب إفريقيا، لكن هذه العملية التقنية البحتة ليست هي العملية الديمقراطية. البناء الديمقراطي هو بناء الأحزاب والسعي إلى أن تكون بنيات قوية وصلبة، فبدون هذه البنيات التحتية الأساسية لن يكون هناك مأمن من انقلاب أو من ثوران. فكلما تأزم الحال رجعنا من جديد إلى نفس الحلقة المفرغة البائسة.
وقاعدة أن الأحزاب القوية رادع لأي انقلاب صالحة حتى في الأنظمة الشمولية، فانظر مثلا في الصين أو كوريا الشمالية أو حتى في دول القارة كانغولا أو بعض دول أمريكا اللاتينية ككوبا. فلا يمكن أن تتخيّل انقلابا في هذه الدول، إلا إذا كان له ظهير في الحزب، وهو أمر صعب جدا، وهناك أيضا فصل بين العسكر والسياسة وهو ما يكبح من طموحات القادة العسكريين وتحركاتهم لقلب نظام الحكم.
ثم إنك تلحظ في دول غرب إفريقيا الاهتمام فقط بتنظيم انتقال سريع وشكلي وهش لرأس السلطة من دون مراعاة لانتقال منظم وجوهري وصلب. وهو ما يؤدي إلى واجهة مزيفة وكاذبة ومضللة، تتردى وتسقط من جديد في أول اختبار أو امتحان. ثم إن هذا لا يمنع من بناء صورة مزيفة جديدة وبمباركة من الجيران والمجموعة الدولية سرعان أيضا ما يتبدى أمرها، وهكذا دواليك من غير اعتبار ولا اتعاظ.
الكاتب الصحفي سيدأحمد أعْمَرْ محم