منذ خفوت بعض أضرار الأزمة المالية العالمية التي اندلعت بين سنتي 2007 و 2008، بفضل بعض الحلول والعلاجات التي وصفها الكثير من رجال الاقتصاد والسياسة في الغرب والشرق على السواء بالترقيعية لأنها لا تعالج المشكل بشكل جذري، والكثير من الحديث يتكرر عن قرب وقوع أزمة اقتصادية عالمية أكثر ضررا وأوسع نطاقا.
مع نهاية سنة 2021 تبرز مؤشرات كثيرة تحمل تحذيرات بأن العالم على وشك دخول أزمة جديدة تزيد من خطرها جائحة كوفيد 19 التي دق جرس الإنذار بها في مارس 2020 وتقترب من دخول سنتها الثالثة. تضاف إلى ذلك المشاكل المزمنة المتولدة عن العلاقات غير المتوازنة بين الدول الموصوفة بالمتقدمة وتلك الأخرى الموصوفة بالنامية وعملية استغلال ثروات هذه الأخيرة والتحكم في أسعار سلعها وموادها الأولية.
الديون العالمية وخاصة بسبب الجائحة في تصاعد صاروخي مستمر، وغالبية الدول والبنوك المركزية تطبع النقود دون أي تغطية، والتضخم يمتص كل تحسن في مداخيل الطبقات المتوسطة والفقيرة وأسعار الغذاء لا تتوقف عن الصعود والثروات تتركز أكثر فأكثر في قبضة قلة، وبحسب أرقام منظمة أوكسفام غير الحكومية التي تستند منهجيتها على معطيات تنشرها مجلة "فوربز" ومصرف "كريدي سويس"، يمتلك 2153 شخصا حاليا أموالا أكثر من 4.6 مليارات نسمة هم الأكثر فقرا في العالم. ويشير تقرير المنظمة إلى أن ثروة الـ1 في المئة الأكثر ثراء في العالم "تمثل أكثر من ضعف مجموع الثروة" التي يملكها 6.9 مليارات نسمة هم الأقل ثراء، أي 92 في المئة من سكان العالم.
بالنسبة للأزمة المقبلة يرى الكثيرون أنها بسبب انفصال الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي أو انخفاض ثم ارتفاع أسعار الفائدة " في الأسواق المالية"، وآخرون يرون أنها معضلة بنيوية كما ترى "فاينانشال تايمز"، او سببها الأعمق العولمة النيو - ليبرالية المنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تقف عن التوسع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة.
أنصار الرأسمالية الليبرالية يعتقدون جازمين بأنها ستكون مرة أخرى أزمة عابرة ويتساءلون: ألَـم يشهد النظام الرأسمالي مرات عديدة طيلة المائتي سنة الماضية من عمره، سلسلة أزمات دورية كان يخرج منها دوما، ليس فقط سالما، بل أقوى؟ أليست الأزمات تعبيرا عن السر الكبير الذي يمنح النظام الرأسمالي طاقته الهائلة على التجدد والانبعاث من جديد "كما مع مصاصي الدماء الذين يقومون دائما من الموت"، على حد تعبير كارل ماركس، وهو: "التدمير الخلاق"؟.
بعد كل من أزمات 1876 و1929 و1971 و1997-1998 و2001 و 2007-2008، كان النظام الرأسمالي يعاين الدورة التقليدية انتعاش – ركود - انتعاش، ويثبت أقدامه بعدها بشكل أفضل.
كل هذا قد يكون صحيحا، لكن الصحيح أيضا أن الأزمة القادمة قد لا تشبه الأزمات السابقة. كيف؟ خلال حقبة العولمة النيو - ليبرالية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين، مرت المراكز الرأسمالية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، بعملية "لا تصنيع" أو نزع التصنيع، انتقلت بموجبها الرأسمالية الغربية من الاعتماد على الأسواق المحلية - القومية إلى الشكل المتعولم الحالي من العولمة عبر نقل الصناعات الثقيلة إلى الصين والهند وغيرهما.
وترافق ذلك مع "تحرير" أسواق المال ونزع كل القيود المنظَمة لها، مما أدى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى "الجنات الآسيوية" وأيضا إلى تقسيم عمل دولي جديد: التكنولوجيا المتطورة والبحث والتطوير والسلع "الخاصة" الخدمات المالية في المراكز الرأسمالية والعمليات الصناعية التقليدية في الأطراف.
أثر أزمة الديون العالمية، لن يتوقف على الحكومات فحسب، بل يمكن أن يمتد إلى القطاعات الخاصة في كل مكان، وكذلك سيمتد أثرها إلى الدائنين أنفسهم، إذ إن عجز المدينين عن دفع ديونهم يعني خسائر ضخمة للدائنين، ومن المتوقع أن ينتقل الأثر الاقتصادي بالعدوى من دولة إلى أخرى، متسببا عبر "أثر الدومينو" في كرة ثلج متدحرجة، قد تفضي إلى حصول أزمة عالمية ضخمة تضرب معدلات نمو الإنتاج، مع العلم أن كمية الدولارات الأمريكية التي يتعامل بها جزء كبير من دول العالم وغير المسندة سوى بقدرة الاقتصاد الأمريكي على تقديم أسعار فائدة أعلى ستكون بمثابة المقصلة المعلقة فوق رقاب الكثيرين.
مستوى قياسي للدين
أعلن صندوق النقد الدولي يوم الأربعاء 15 ديسمبر 2021 إن الديون العالمية قفزت إلى 226 تريليون دولار عام 2020، مسجلة أكبر قفزة لعام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، وحذر من مخاطر إذا ارتفعت أسعار الفائدة بوتيرة أسرع من المتوقع وإذا تعثر النمو.
وقال مسؤولون بصندوق النقد في تدوينة إن جائحة كوفيد-19 تسببت في أن تصل الديون إلى 256 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2020، بزيادة قدرها 28 نقطة مئوية.
وأضافوا أن الاقتراض الحكومي شكل ما يزيد قليلا على نصف الزيادة البالغة 28 تريليون دولار، لكن ديون القطاع الخاص بين الشركات غير المالية والأسر سجلت أيضا مستويات مرتفعة جديدة.
وقال صندوق النقد إن الاقتصاديات المتقدمة والصين شكلتا 90 بالمئة من الزيادة في الديون بفعل أسعار فائدة منخفضة. وارتفعت الديون بوتيرة أقل في الدول النامية حيث عرقلها في الغالب ارتفاع تكاليف الاقتراض ووصول محدود إلى التمويل.
وذكر فيتور جاسبر مدير شؤون المالية العامة بصندوق النقد ومسؤولون آخرون إن ارتفاع أسعار الفائدة سيقلص تأثير الزيادة في الإنفاق العام وسيفاقم المخاوف بشأن استدامة الدين.
وكتب المسؤولون في التدوينة "المخاطر ستتعاظم إذا ارتفعت أسعار الفائدة بوتيرة أسرع من المتوقع وتعثر النمو".
قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة ويوم الثلاثاء 14 ديسمبر أقر الكونغرس الأمريكي زيادة سقف الديون بمقدار 2.5 تريليون دولار إلى نحو 31.4 تريليون وأرسل مشروع القانون إلى الرئيس جو بايدن للتوقيع عليه للحيلولة دون تخلف لم يسبق له مثيل عن سداد الديون.
وأقر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر إن الزيادة ستغطي احتياجات الحكومة فقط حتى سنة 2023.
في عام 2020 انفقت الدول الغنية وحدها 12 تريليون دولار، أي ما يعادل 31 في المئة من إجمالي نواتجها المحلية مجتمعة لمواجهة كورونا، دون احتساب ما فعلته البنوك المركزية العالمية من عمليات خلق أموال وتخفيض كبير في أسعار الفائدة.
وقد بلغ الناتج العالمي الإجمالي "بسعر الدولار الحالي" 84.5 تريليون دولار في عام 2020، بينما تبلغ الديون المترتبة على حكومات العالم 86 مليار دولار، أي أكثر من الناتج العالمي الإجمالي بترليون دولار ونصف، وبلغت الرقم نفسه بالنسبة للشركات غير المالية، بينما تبلغ ديون القطاع المالي 69 تريليون دولار، وهو ما نسبته 81 في المئة من الناتج العالمي، وأخيرا يبلغ دين القطاع المنزلي 55 تريليون دولار، وما نسبته 65 في المئة من الناتج العالمي.
وتقوم آلية الديون على توفير المال الفائض من قبل من يملكه، وتقديمه إلى من يحتاج هذا المال لتمويل استهلاكه أو استثماره، وتوفر الديون آلية سهلة للربح دون أن يشغل الدائن ماله مباشرة، ويكافأ الدائن بسعر فائدة أعلى كلما كان المدين يحمل مخاطر أكثر لعدم السداد، كما يوفر للدائنين آليات كثيرة لضمان حقوقهم.
وعبر الديون فإن من يملك فائضا من المال يربح على حساب من يقوم بتشغيله، فهي آلية لتوزيع الثروة تعمل فعليا على نقل المال من يد إلى يد، بناء على امتناع من يملك المال عن استهلاك أو استثمار ماله اليوم، مقابل إقراضه لمن يحتاج لإرجاعه في المستقبل، دون أن يكون للدائن أي دور في أي عملية إنتاجية، ورغم أهمية توفير التمويل لمن يحتاجه، ومركزية الديون في الاقتصاد العالمي اليوم، فإن مثل هذه النسب تعني أن العالم مملوك للدائنين.
ويعاني المواطنون العاديون أكثر من غيرهم من الديون، فعلاوة على ديونهم المباشرة "الديون المنزلية"، والتي تبلغ أكثر من 65 في المئة من الناتج العالمي الإجمالي، فهم من يتحمل نسبة كبيرة من عبء دين حكوماتهم، والتي تدفع ديونها من خلال الضرائب التي يدفعونها للحكومة، كما أن نسب الديون المرتفعة في الشركات، قد تؤدي إلى تخفيض الأجور وتقليل التوظيف، ما يعني وظائف سيئة وأقل، وبطالة أعلى، وقدرة أقل على تحمل تكاليف معيشتهم ودفع ديونهم اليومية.
النسبة الآمنة للدين
يحدد الاتحاد الأوروبي النسبة الآمنة للدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي في بلد ما، عند نسبة 60 في المئة، مع معدل نمو 3 في المئة كل عام، وقد تجاوزت النسبة العالمية للديون الحكومية على الناتج المحلي الإجمالي هذه النسبة بكثير، بينما يبلغ معدل النمو 3 في المئة تقريبا في العشرة أعوام الماضية.
وهذه النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي تقتصر على ديون الحكومات فقط، ولا تتعداها إلى أنواع الديون الأخرى، ولا تملك كل دول العالم نسبة دين متشابهة أو متقاربة، بل إن بعض الدول تساهم في تخفيض هذه النسبة كثيرا نظرا إلى انخفاض نسبة ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهناك دول أخرى تساهم بشكل أكبر في رفع معدلات النمو العالمية، فالصين مثلا مدينة بـ66 في المئة نسبة إلى ناتجها الإجمالي، وهي من النسب المنخفضة مقارنة بغيرها من الاقتصادات الكبيرة، إذ يملك غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية دينا عاما يتجاوز 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والصين أيضا من أكبر المساهمين في رفع معدلات النمو العالمية.
تاريخيا، ترتبط موجات الديون الضخمة بأزمات مالية عميقة هزت اقتصاديات العالم، وكانت آخر الأزمات المالية العالمية المرتبطة بالديون هي أزمة عام 2008، وللمفارقة فإن الأزمة المالية العالمية أطلقت الموجة الحالية من التوسع في الديون والاقتراض في العالم، ثم جاءت جائحة كورونا لتعمق هذا الاتجاه أكثر، وتزيد من الاعتماد على الديون والحاجة إليها، وتسهل البنوك المركزية العالمية عمليات خلق الأموال وتخفض الفوائد لتصبح الديون أقل تكلفة.
ولا يمكن التنبؤ بدقة بميعاد الأزمة القادمة، ولا بالشكل الذي ستطل به على العالم، ولكن بأخذ الأرقام والنسب المبينة أعلاه بعين الاعتبار، وكونها تنمو بشكل مضطرد، وأن الأزمات المالية جزء لا يتجزأ من طبيعة اقتصاد العالم، ولكون الاقتصاد العالمي مرتبطا بعضه ببعض بشكل وثيق، ما يعني إمكانية انتقال الأزمة على نمط الجائحة نفسه وبشكل معد من بلد إلى آخر، فإن ذلك يعني أن احتمالية أن يكون العالم على حافة أزمة عالمية جديدة عنوانها الديون احتمال مرتفع جدا.
أكبر المخاطر
بداية شهر ديسمبر 2021، رصد الخبراء مجموعة من أبرز المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي في 2022، في الوقت نفسه فإن التطورات الاقتصادية التي شهدها العالم خلال عامي جائحة فيروس كورونا المستجد التي لم تنته بعد، أظهرت خطأ الكثير من التوقعات، وهو ما يفتح الباب أمام السؤال عما يمكن أن يكون خطأ في العام المقبل؟.
ويرى المحللون توم أورليك ومايفا كوزين وإيندا كوران في تحليل نشرته "بلومبرغ" أن الأخطاء المحتملة في العام المقبل كثيرة، والمخاطر التي ستواجه الاقتصاد العالمي كبيرة.
وفي تحليلهم الاقتصادي يرصد المحللون الثلاثة قائمة المخاطر الكبرى التي تواجه الاقتصاد وتتمثل في المتحور الجديد لفيروس كورونا المستجد أوميكرون، وزيادة أسعار الفائدة الأمريكية، وانهيار القطاع العقاري الصيني بسبب أزمة شركة إيفرغراند، وارتفاع معدل التضخم في العالم وبخاصة تضخم أسعار الغذاء والتوترات الجيوسياسية والسياسية في أوروبا.
في المقابل يشير المحللون إلى وجود بعض النقاط المضيئة في العام الجديد ومنها: وفرة السيولة النقدية لدى المستهلكين بفضل ارتفاع معدلات الادخار أثناء فترات الإغلاق نتيجة انتشار فيروس كورونا، واحتمال تمديد الحكومات لبرامج التحفيز الاقتصادي، واستمرار تبني الولايات المتحدة لميزانية توسعية.
ويعتبر الوقت مبكرا لإصدار حكم نهائي بشأن المتحور أوميكرون الذي يبدو أسرع انتشارا من السلالات السابقة لفيروس كورونا المستجد لكنه أقل خطورة من حيث معدلات الوفاة. وهذا الأمر يمكن أن يسمح بعودة الحياة إلى شبه حالتها قبل الجائحة. في المقابل فإن الخوف من الجائحة وإجراءات الإغلاق تحد من إقبال المستهلكين على العديد من الأنشطة مثل المطاعم ومراكز اللياقة البدنية، كما تدفعهم إلى شراء المزيد من المواد الغذائية. وإذا عاد التوازن إلى الإنفاق الاستهلاكي مرة أخرى خلال العام المقبل، فقد يسجل الاقتصاد العالمي نموا بمعدل 5.1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وليس بمعدل 4.7 في المئة كما يتوقع خبراء بلومبرغ.
ورغم ذلك يحذر المحللون من أن الأمور قد لا تمضي على هذا النحو الإيجابي، وقد تظهر سلالة جديدة من الفيروس أشد خطورة تجبر العديد من الدول على إعادة فرض إجراءات الإغلاق وهو ما ستكون له تداعياته على أداء الاقتصاد العالمي. وفي حال فرض إجراءات إغلاق خلال العام المقبل لمدة ثلاثة أشهر فقط، يمكن أن يتراجع معدل النمو العالمي إلى 4.2 في المئة فقط.
في بداية 2021 كان المتوقع أن ينتهي العام بمعدل تضخم أمريكي في حدود 2 في المئة. ولكن ما حدث أن معدل التضخم وصل إلى 7 في المئة. ويتوقع المحللون أن ينتهي عام 2022 وقد تراجع معدل التضخم إلى المستويات المستهدفة أي في حدود 2 في المئة. ويعتبر المتحور أوميكرون سببا محتملا واحدا للتضخم، كما أن الأجور ترتفع بسرعة في الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه فإن التوترات بين روسيا وأوكرانيا يمكن أن تدفع أسعار الغاز الطبيعي إلى مزيد من الارتفاع. ومع الاضطرابات المناخية الناجمة عن ظاهرة التغير المناخي، قد تواصل أسعار الغذاء العالمية ارتفاعها. ولا تتحرك كل المخاطر الاقتصادية في اتجاه واحد. ففي حين يمكن أن يؤدي تفشي موجة جديدة من الجائحة إلى تضرر قطاع السفر على سبيل المثال، فإنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى تراجع أسعار النفط، وبالتالي تتراجع الضغوط التضخمية، وهو ما سيضع البنوك المركزية الكبرى في العالم أمام أسئلة ليس لها إجابات سهلة.
ويحذر الخبراء من أن يؤدي إقدام مجلس الاحتياط الاتحادي "البنك المركزي" الأمريكي على زيادة أسعار الفائدة وتشديد السياسة النقدية إلى ضربة قوية للأسواق الصاعدة. فارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية يؤدي عادة إلى ارتفاع سعر الدولار وخروج الاستثمارات المالية، وربما إلى أزمات عملة في الاقتصاديات النامية.
وفي أوروبا، ساعد تضامن قادة الدول الداعمة لمشروع الوحدة الأوروبية والدور النشط للبنك المركزي الأوروبي في عدم ارتفاع تكلفة الاقتراض للحكومات الأوروبية وهو ما ساهم في التغلب على أزمة جائحة كورونا.
ومع ذلك يمكن تلاشي تأثير هذين العاملين خلال عام 2022. فمعركة انتخابات الرئاسة في إيطاليا خلال يناير المقبل، قد تهدد الائتلاف الحكومي الهش. وفي فرنسا تشير استطلاعات الرأي إلى أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيواجه تحديا قويا من جانب تيار اليمين السياسي في انتخابات الرئاسة المقررة في أبريل المقبل. وإذا ما حقق المعسكر المناوئ للاتحاد الأوروبي مكاسب كبيرة في الاقتصاديات الرئيسية الأوروبية، يمكن أن يتحطم الهدوء في أسواق السندات الأوروبية ويحرم البنك المركزي الأوروبي من الدعم السياسي المطلوب لكي يتعامل مع الأزمات المالية.
وأخيرا فإن ارتفاع أسعار الغذاء العالمية خلال عام 2022 يمكن ان يؤدي إلى موجة اضطرابات سياسية واجتماعية عنيفة. فالجوع يؤدي تاريخيا إلى اضطراب اجتماعي. وقد أدت تداعيات كورونا والطقس السيء إلى ارتفاع أسعار الغذاء في العالم لمستويات قياسية تقريبا، ويمكن أن يستمر ارتفاعها خلال العام الجديد.
الانهيار على الأبواب
كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف في يونيو 2021:
تقترب التجربة التاريخية لكبرى البنوك المركزية حول العالم بطباعة كمية هائلة من الأموال غير المغطاة من نهايتها. ووفقا لجميع قوانين الاقتصاد، بدأ الضخ غير المحدود للأموال فعليا بتسريع التضخم العالمي.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تسارع التضخم من 1.4 في المئة في فبراير إلى 5 في المئة في مايو. ليست تلك فحسب أعلى أرقام منذ أغسطس 2008، حينما انهار النظام المالي العالمي، وكان الناس يشترون العقارات والأصول الأخرى في ذعر شديد. بل إن الأمر أسوأ من ذلك، حيث تقف البنوك المركزية الآن أمام خيارين أحلاهما مر: فإما السماح للتضخم بالتسارع نحو تضخم مفرط، عندما تتضاعف الأسعار كل بضعة أشهر، أو رفع سعر الفائدة على القروض، وخفض الدعم المقدم للشركات والأفراد.
كلا المسارين يقتلان الاقتصاد. فالتضخم المفرط في منطقة الدولار سيؤدي إلى توقف التجارة العالمية لبعض الوقت حتما، يليه تدمير لاحق للنظام المالي العالمي، وتوقف مؤقت لمعظم مرافق الإنتاج في العالم، وإفلاس عدد كبير من الشركات، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات اجتماعية مترتبة عليه.
البديل، زيادة سعر الفائدة، سيؤدي إلى إفلاس غالبية المدينين اليائسين، ممن نمت حصتهم في الغرب إلى عدة عشرات في المئة خلال فترة معدلات الفائدة التي تقترب من الصفر. وهو إفلاس سيأتي برد فعل متسلسل، يدفع نحو تدمير النظام المالي والأعمال التجارية الناجحة على طول الطريق بسبب عدم السداد وإخفاقات البنوك. وهو ما سيكون أسوأ بكثير من الأزمة المالية لعام 2008، وحتى أسوأ من الكساد الكبير عام 1929. وستؤدي موجة إفلاس الشركات، إلى جانب خفض الدعم المقدم للمواطنين، إلى زيادة هائلة في معدل البطالة، وانكماش حاد في الطلب، ليبدأ حينها الانكماش الكلاسيكي، عندما يؤدي انخفاض الطلب إلى الإفلاس وتسريح العمالة، فيسفر عن تسريح العمالة بالتالي إلى انخفاض الطلب، وهكذا دواليك حلزونيا نحو القاع. وسيظل هذا الانهيار كذلك متبوعا بتضخم مفرط، حيث سينخفض المعروض من السلع بسبب حالات الإفلاس، على خلفية كميات هائلة من الأموال التي طبعتها البنوك المركزية.
في الولايات المتحدة الأمريكية والهند والبرازيل وروسيا والمكسيك والمملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وجنوب إفريقيا وبولندا وماليزيا والفلبين وعدد من البلدان الأخرى، تجاوز معدل التضخم 4 في المئة. هذا ما تقوله الإحصاءات الرسمية، التي غالبا ما تتحايل الحكومات لإصدار أفضلها، أما التضخم الحقيقي فأعلى من ذلك بكثير.
لا تزال منطقة اليورو واليابان والصين متأخرة عن الركب، وتعاني هناك من الانكماش. ولكن على خلفية ارتفاع التضخم في البلدان الأخرى، سوف تتسارع زيادات الأسعار هناك أيضا.
في رأيي المتواضع، سوف تكون الأشهر الستة المقبلة حاسمة بشكل أو بآخر. وسيتعين على البنوك المركزية اختيار أحد مساري انهيار الاقتصاد العالمي. فإما رفع أسعار الفائدة وخفض الدعم، أو على العكس، ضخ المزيد من الأموال إلى النظام لتجنب حالات الإفلاس، وهو ما سيزيد من سرعة التضخم.
على أي من المسارين ستعتمد السرعة التي نصل بها إلى الذروة عندما ينهار الدولار، وينتهي العالم كما نعرفه الآن. أتمنى أن يكون لدينا سنة أو اثنتين، وربما حتى 3 سنوات.
أكبر الألغاز في الاقتصاد العالمي
في 24 نوفمبر 2021 كتب روشير شارما كبير الاستراتيجيين العالميين في مورغان ستانلي لإدارة الاستثمار، ومؤلف كتاب "القواعد العشر للأمم الناجحة" مقالا في صحيفة الفايناشيال تايمز جاء فيه:
أحد أكبر الألغاز في الاقتصاد العالمي هو لماذا أسعار الفائدة طويلة الأجل بالكاد تتزحزح في الأشهر الأخيرة على الرغم من عودة التضخم القوية.
حتى الآن فسر المحللون هذا السلوك الغريب في السوق على أنه أحد أعراض الوباء، مدفوعا بالخوف من زيادة أخرى في الحالات، أو عمليات شراء الأصول الهائلة من جانب البنوك المركزية، أو - قبل كل شيء - الاعتقاد بأن ارتفاع التضخم الحالي مؤقت.
لم تثبت صحة أي من هذه التفسيرات في ضوء البيانات الحديثة، لكن هناك تفسير آخر لذلك: العالم واقع في فخ الديون.
على مدى العقود الأربعة الماضية زاد إجمالي الدين أكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى 350 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. مع تخفيض البنوك المركزية أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها، ساعد التدفق السهل للأموال إلى الأسهم والسندات والأصول الأخرى في تعزيز حجم الأسواق العالمية بحيث أصبح حجمها أربعة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي. الآن قد تشعر سوق السندات بأن الاقتصاد العالمي الغارق في الديون والأصول المتضخمة حساس للغاية لارتفاع أسعار الفائدة بحيث لا يمكن تحمل أي ارتفاع كبير.
بالتأكيد، إذا كانت جميع التفسيرات المعيارية تنهار، فلا بد من أن هناك شيئا أعمق يحدث. على الرغم من ارتفاع عدد حالات الإصابة بفيروس كوفيد، إلا أن الخوف من تأثيره الاقتصادي أفسح المجال لافتراض أن اللقاحات والعلاجات الجديدة ستحول كوفيد إلى جزء طبيعي من الحياة، مثل الإنفلونزا. تظهر البيانات العالمية أن المستهلكين عادوا إلى التسوق والذهاب إلى المطاعم وأن مستويات ذلك قريبة من مستويات ما قبل الوباء.
في ذروة الأزمة كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يشتري 41 في المائة من جميع إصدارات سندات الخزانة الجديدة، لكن العوائد طويلة الأجل ظلت قريبة من أدنى مستوياتها القياسية حتى بعد أن بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى الإشارة في أوائل الخريف إلى خططهم لإنهاء مشترياتهم. علاوة على ذلك، تشتري البنوك المركزية السندات بجميع فئاتها، فلماذا ترتفع أسعار الفائدة الآن فقط على السندات قصيرة الأجل؟.
هذا هو المكان الذي تأتي فيه سيناريوهات التضخم - إما أن الارتفاع الحالي سيمر مع تخفيف نقص الإمدادات الناجم عن الوباء، أو أن العالم يدخل حقبة مثل السبعينيات، حين أصبح التضخم جزءا لا يتجزأ من النظام وأفكار الناس.
تتزايد الأدلة على أن التضخم ليس "مؤقتا" كما تصر البنوك المركزية. يتركز الاهتمام على التضخم الأساسي، الذي سجل رقما قياسيا في ثلاثة عقود تجاوز 6 في المائة في الولايات المتحدة شهر أكتوبر. لكن مقاييس التضخم الأساسية - التي تستثني الأسعار المتقلبة مثل الغذاء والطاقة، وتوفر مؤشرا أفضل للاتجاهات طويلة الأجل - ارتفعت في جميع أنحاء العالم وتتجاوز حاليا 4 في المائة في الولايات المتحدة. تواجه الأجور أيضا ضغوطا تصاعدية طويلة الأجل، إذ يوجد الآن أكثر من ست وظائف شاغرة لكل أمريكي عاطل عن العمل، وهو أعلى مستوى في عقدين من الزمن.
في وقت سابق من عام 2021، كان هناك سبب للأمل في أن زيادة الإنتاجية قد تستمر، ما يحد من التضخم على المدى الطويل، لكنه تلاشى. تظهر الاستطلاعات أن الأشخاص الذين يعملون من المنزل يقضون ساعات أطول لتوليد المستوى نفسه من الإنتاج.
بدأت أسواق السندات العالمية في احتساب توقعات تشير إلى أن ارتفاع التضخم والنمو سيجبران البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل ابتداء من عام 2022. في الواقع، يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى وضع أسواق السندات الحكومية في العالم على مسار يؤدي إلى أسوأ عام من العائدات منذ 1949.
مع ذلك، العائد على السندات الحكومية ذات العشرة أعوام الآن أقل كثيرا من معدل التضخم في كل دولة متقدمة. من المحتمل أن حدس السوق يقول ـ بغض النظر عما يحدث في المدى القريب للتضخم والنمو ـ أن أسعار الفائدة على المدى الطويل لا يمكن أن تتحرك إلى أعلى لأن العالم مثقل بالديون إلى درجة كبيرة.
مع نمو الأسواق المالية وإجمالي الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، تصبح الأسواق هشة بشكل متزايد. أصبحت أسعار الأصول وتكلفة خدمة الدين أكثر حساسية لارتفاع أسعار الفائدة، وهي الآن تشكل تهديدا مزدوجا للاقتصاد العالمي. في دورات التشديد السابقة، زادت البنوك المركزية الرئيسية أسعار الفائدة نحو 400 إلى 700 نقطة أساس.
الآن قد يؤدي التشديد الأكثر اعتدالا إلى دفع عديد من الدول إلى مشكلات اقتصادية. لقد ارتفع عدد الدول التي يبلغ إجمالي الديون فيها أكثر من 300 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين الماضيين من ست دول إلى 20 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة. يمكن أن يؤدي الارتفاع الحاد في معدل الفائدة أيضا إلى انكماش أسعار الأصول المرتفعة، التي عادة ما تكون انكماشية للاقتصاد أيضا. قد تفسر نقاط الضعف هذه سبب تركيز السوق بشدة على سيناريو "خطأ السياسة" حيث تضطر البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، ما يؤدي إلى تعثر الاقتصاد ودفع الأسعار في النهاية إلى الانخفاض مرة أخرى.
في الواقع، العالم عالق في فخ الديون. ومع أن رفض أسعار الفائدة طويلة الأجل الارتفاع بشكل كبير أمر جديد وغير متوقع، إلا أنه قد يكون منطقيا تماما.
الديمقراطية والعولمة
في كتابه الشهير "الجهاد في مواجهة ماكوورلد"، الذي أحدث ضجة كبرى في أمريكا، يرسم بنجامين باربر خطوط هذه الأزمة على النحو الآتي:
- الأصولية الرأسمالية التي يسميها هو "ماكوورلد"، لا تختلف بشيء عن الأصوليات الدينية من حيث تطرفها ورفضها للآخر.
- هذه الأصولية بدأت تنقلب الآن على الديمقراطية بعد قرون من الهدنة معها. لماذا؟ لأن الرأسمالية المتعولمة لم تعد في حاجة إلى الدولة - الأمة التي لعبت دور الأم الحاضنة للديمقراطية، وبالتالي، باتت هذه الأخيرة قيدا على الأولى، لا جِـسرا أو معبرا لها.
- الأصولية الرأسمالية، وبسبب سيطرتها الكاسحة على تمويل الإعلام والعمل السياسي، تهدد الآن بإطاحة أثمن إنجازات البشرية في التاريخ: الديمقراطية نفسها.
ينسج الباحث الاقتصادي الأمريكي راستون سول جون، في دراسة بعنوان "الديمقراطية والعولمة" على منوال باربر فيقول، إن أخطر ما شهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هو نجاح الإعلام الأمريكي الذي تسيطر عليه الشركات، بتصوير الاقتصاد على أنه قائد المجتمعات، كل المجتمعات، وهذا كان، برأيه، تمهيدا لانقلابات كـبرى في بنية النظام الرأسمالي.
فبعدها سادت الاحتكارات وانعدم التنافس وسيطرت الاوليغارشيات المالية، بعد إن استغلت الشركات الكبرى شعار الاقتصاد كقائد للقيام بأضخم مركزة لرأس المال في التاريخ البشري عبر عمليات الدمج والضم والابتلاع.
وفي الوقت نفسه، كان أرباب النظام الرأسمالي يتوقفون على أنهم "رأسماليين حقيقيين"، فهم يتشكلون الآن من التكنوقراطيين والبيروقراطيين والمدراء والموظفين، وهؤلاء جميعا لا يملكون أية أسهم ولا يقدمون على أية مخاطر. الأسهم الوحيدة التي يملكون، هي تلك التي يحصلون عليها مجانا من الشركات أو عبر استعارة المال من هذه الشركات بدون فوائد.
كل هذه الفئات لا تعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومكلفة، وهي أقرب ما تكون إلى دراكولا مصاص الدماء، إذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالكين حقيقيين، الذين لديهم أسهم ويقومون بمخاطر مالية، وبعدها تبدأ هذه الفئات بمص دماء هذه الشركات.
وفي خضم هذه العملية، تتوقف الاقتصاديات عن التطور وتنهار الاقتصاديات المختلطة، لأن الشركات العملاقة تشتري شركاتها في وقت مبكر، وهذه العملية، إضافة إلى فساد طبقة المدراء البيروقراطيين، هما الآن سبب كل من الأزمة الرأسمالية والأزمة الديمقراطية راهنا.
الأرقام تدعم تماما مخاوف بنجامين باربر وشكاوى راستون سول جون :
- هناك الآن خمس شركات عملاقة تسيطر على 50 في المئة من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الإلكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والالكترونيات.
- وهناك خمس شركات أخرى، تسيطر على 70 في المئة من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة.
- وثمة خمس شركات غيرها تهيمن على 40 في المئة من النفط والعقول الإلكترونية الخاصة والإعلام، و51 في المئة من أكبر الاقتصاديات في العالم اليوم، هي شركات لا دول.
- مبيعات 200 شركة، تمثل 28،3 في المئة من الإنتاج الخام العالمي.
كل هذه الأرقام تعني ببساطة، أن السوق العالمي الموحد ومعه القرية العالمية وحتى مفهوم الحضارة العالمية الواحدة، سيكون عما قريب "ملكية خاصة" لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الإدارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه.
إلى أين؟
تحليل نشر في سويسرا قبل سنوات محتوياته تتشابك وتتوازىمع من يتساءل: هل تعني كل هذه المعطيات أن الرأسمالية باتتفي خطر؟ جواب التحليل هو كلا أو على الأقل ليس بعد. صحيحأن ثمة أصوات تتعالى الآن في فنزويلا وبوليفيا وباقي أمريكااللاتينية، تدعو إلى استبدال الرأسمالية بالاشتراكية، لكن هذهالقوى لا تشكل لا بديلا ولا ندا للرأسمالية، كما كان الأمر معالاتحاد السوفييتي. التحدي الحقيقي لها يأتي من قلبها، أي منأوروبا التي ترفض قطاعات واسعة فيها الرأسمالية في طبعتهاالأنغلو - ساكسونية المتطرفة.
الدليل؟ أنه الاستطلاع الذي أجرته "فاينانشال تايمز" ومؤسسةهاريس في أوروبا، والذي خرج بالخلاصات الرئيسية التالية:
1- ثلثا الفرنسيين قالوا إن الاقتصاد الأوروبي الموحد لن يستطيعالدخول في منافسة فعالة مع الاقتصاديات الصاعدة في آسيا،مثل الصين والهند. النسبة المؤيدة لهذا الرأي، كانت مرتفعة فيالدول الأوروبية الرئيسية الأخرى: 56 في المئة في إيطاليا و45 في المئة في ألمانيا و41 في المئة في بريطانيا.
2- 87 في المئة من الألمان و73 في المئة من الفرنسيين و58 فيالمئة من الإسبان و46 في النئة من الإنجليز، يرفضون تقليدالرأسمالية الأمريكية، لأنها "عنيفة ومتوحشة" ولا تأخذ فيالاعتبار الضمانات الاجتماعية للمواطنين.
3- غالبية المواطنين الأوروبيين يعتقدون أن الشركات الدوليةمتعددة الجنسيات، أكثر قوة من الحكومات الأوروبية، وأنه يتعينعلى هذه الأخيرة أن تعمل على مقاومة هذه الحيتان الاقتصاديةالضخمة، لضمان حقوق العمال والموظفين والطّـبقة الوسطى.
أجل. حتما. فليس هينا أن يرفض الأوروبيون قواعد العملالرأسمالية الأمريكية، على الرغم من أنها تقدم الآن على أنهاالمفتاح الوحيد لفتح أبواب العولمة التي من دونها لا نُمو ولا توَسعاقتصاديين. مواطنو القارة القديمة يريدون الحفاظ علىمكتسباتهم الاجتماعية، التي ضحى بأرواحهم من أجلها عشراتالملايين من أجدادهم عبر الثورات والانتفاضات التي حدثت علىمدى السنوات الأربعمائة الماضية. وإذا ما كان ثمن هذهالمحافظة، التأخر عن اللّحاق بركب العولمة، فليكن.
وأخيرا، مطالبة هؤلاء المواطنين لحكوماتهم بالتصدي لجبروتالشركات متعددة الجنسيات، والتي هي أساس الرأسماليةالعالمية في حلتها المتعولمة، ربما يكون مؤشرا على أنهم سيكونونعلى استعداد لدعم أو حتى قيادة أية ثورة اجتماعية عالمية جديدةقد تنشب قريبا أو بعد حين ضد ما يسمونه هم "الرأسماليةالمتوحشة".
أوروبا إذن، تتمخض. وعلى الرغم من أن هذا المخاض يبدوسلبيا، إلا أنه قد يسفر في النهاية عن محصلات إيجابية، إذا مابرز من بين الصفوف الأوروبية فلاسفة جدد ومنظرونإستراتيجيون ومؤرخون مبدعون، يعملون على إعادة صياغة دورأوروبا في التاريخ، بعيدا عن إملاءات النخبة البيروقراطيةالحاكمة في بروكسل والتي تخدم في الدرجة الأولى مصالحالشركات متعددة الجنسيات والمصارف العالمية، وقريبا منمتطلبات عولمة إنسانية جديدة تستند إلى نظام عالمي جديدمغاير.
قد لا يبدو هذا الانقلاب واردا في هذه المرحلة، لكن يجب أن لاننسى هنا أن أوروبا اشتهرت على مدار التاريخ بعنفها الشديدوثوراتها وحروبها الأشد، وهذا ما يجعل المفاجآت الانقلابية واردةفي كل حين، خاصة لدى مواطني فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ومن يدري؟ ربما يكون استطلاع فاينانشال تايمز هاريسالخطير، أولى إرهاصات هذا النوع من المفاجآت، التي قد لا تبقىطويلا مفاجآت، إذا ما ثبت للجميع أن الأزمة المالية الأمريكية - العالمية الجديدة ليست مجرد سحابة صيف عابرة.
عمر نجيب