زرتُ هذا المساء "حراس أزويرات".. كان الوضع مؤلما عند رؤية هؤلاء الرجال الذين يرابطون على خط الكرامة، وقد بلغوا من العمر عتيا رافضين أن ترمي بهم الدولة على قارعة الطريق..
كل من هؤلاء له ألف حكاية.. على طريق المعاناة..
تركت زميلي بشير ببانه وعبد الله ولد البو يقومان بعملهم الصحفي... وأطلقت العنان لعدستي لتسجل لحظات من زمن لا تصله "النسبية"..
إنهم يعيشون في ظروف أقل من لاجئ... ساروا سبعمائة وخمسين كيلومترا على أقدامهم.. يحدوهم حلم واحد هو حصولهم على حقوقهم، وعدم تعرضهم لأنياب غوائل الزمن..
لقد تركوا أطفالهم ونساءهم، ولو شاهدهم الحطيئة لنسب أطفاله إلى أثرياء التاريخ.
من أين تبدأ الحكاية..
مع هؤلاء
أمن 32 أفعى معلقة جاءت لتلدغ هؤلاء بعد أن لدغتهم أفعى مؤسسات لا ضمير لها.
أم من المسجد الذي حددوه عبر القناني الفارغة، التي تشبه ملامحهم وواقعهم.. منقوعة في الرمل، غير أنها لا تخاف لدغة أفعى.
أم من القليل الذي جاد به المحسنون من زاد ومفرش يقي بعض شر الشتاء القارس..
أم من الأعرشة التي شيدوها من قش، أم من الحطب والمطبخ..
أم من ملامح الرجال الذين خدموا شركة "أسنيم" أكثر من 37 عاما بالنسبة لبعضهم و20 عاما بالنسبة للبعض الآخر.. فإذا بها ترميهم على رصيف البطالة، قرب جحيم الحزن والجوع.
من صلاة هؤلاء وخشوعهم وهم يتوجهون إلى رب الأرباب..
من قناعتهم بأن موريتانيا وطن الميلاد والقبر..
أم من تعويلهم على تدخل رئيس الجمهورية لإنصافهم في بلد يدخر 80 مليارا..
كان الزميلان يستمعان لحكاية المعاناة.. والإصرار على نيل الحقوق مهما كانت التضحيات..
لماذا نعود لنجلس في بيوتنا إلى جانب أطفال ونساء جياع؟.. الأفضل أن نبقي في هذه الغربة إلى أن ننال حقنا أو نموت في سبيله..
سجل الزملان العديد من التصريحات والملاحظات.. قبل أن يقوموا بجولة في المكان وتفقد أول معرض للأفاعي الميتة في تاريخ "المنتبذ العصي".
قلت للرجال كل منكم لديه حلم بإنصافكم من طرف الدولة.. لكن هذا تحصيل حاصل، أريد أن يحكي لي كل منكم إن كان قد رأى رؤيا في منامه حين وصلتم.
قال الجميع باسمين: هذا سؤال لم يطرح أحد غيرك.. لكن لماذا؟.
بكل بساطة لماذا، تردد تلك الوجوه البريئة الطيبة الكادحة.. الملامح التي تكشف نبع البراءة البريئة..
قال أباه "كثيرا ما أرى في نومي بقراتي في الحوض الغربي، وأرى الراعي يطالبني بتسديد رواتبه الهزيلة، وأنا عاجز عن ذلك لأني في هذه الحال ولا راتب لي".
أضاف وهو يبتسم "أرى بقراتي عند البئر وأشعر بالخوف أن يمتنع الراعي عن سقيهن لأني لم أرسل إليه حقه".
يقول "الإمام" أما "أنا فأرى حين أنام كل ليلة أطفالي الجياع في مدينة "ودان"، وأعرف أنه ليس معهم أي مؤونة.. أرى أطفالي يبحثون عن شيء يأكلونه.. والله هذا الحلم يطابق واقعهم.. أراهم كما هم".
يبتسم أحد الرجال مداعبا زملاءه في الخلف ويقول تقدموا أنتم لتسمعوه أحلامكم أيها الشباب".. يخاطب رجالا أصغر منه لكن كل واحد منهم جاوز الستين.. هم شباب بالنسبة لعجوز في الثمانين من عمره.
قال أحد هؤلاء وهو "أشريف" إنه رأى في المنام قبل ليلتين أن رئس الجمهورية ولد عبد العزيز التقاهم وأمر بتسوية وضعيتهم.
بقرات عطاش في الحوض الغربي، وأطفال جياع في ودان، ولقاء بمن يمكنهم حل مشكلتهم..
تلك رؤيا هؤلاء في منامهم المعجون بالهم والبرد والجوع ودخان أعواد الأراك فوق "تل الأفاعي"، كما بات يسميه البعض، و"تل العائدين" كما يسميه البعض الآخر.
ممنوع دخول هؤلاء الحراس الكبار في السن إلى العاصمة نواكشوط، لكن يسمح لمليون أجنبي بدخول العاصمة ومدن البلاد والعمل في كل المجالات من غسيل الأموال، إلى الدعارة وبيع الخمور والحشيش.
ممنوع أيها الرجال الطاعنون في السن، المواطنون المسالمون، أن تدخلوا مدن البلاد التي يدخلها الأجانب للانضمام لاحتجاجات "لا تلمس جنسيتي"، وحرق رموز البلاد وآخرها محتويات قصر العدالة في كيهيدي.
احلموا أيها الرجال بأطفال زغب الحواصل، وبقرات عطاش، ومرتب هزيل بترته ريح جشع الشركات العابرة للنفوذ.
احلموا ما شئتم أحلام البسطاء الطيبين.. فأنتم لا تعلمون ثمن العطور التي تشتريها زوجات بعض "المسوؤلين"، أحرى الفنادق التي يقضين فيها عطلتهن في "جزر الخالدات" و"أخواتها" صحبة أخدانهن.
مساء سعيدا..
أيها الرجال العظام وطنية وخدمة ونبلا وأخلاقا ودينا.. أرجو أن لا تكونوا كالشعراء..
فالشعراء تزوجوا الخيال ليبقى أعزبا، وأنا أخاف عليكم "الأمل الأعزب"..
من صفحة الشاعر المختار السالم