في مقال أمس “خارطة طريق للبلدان العربية لتجاوز أزمة المديونية.. وإدارة دورة الأزمات الآنية والمستقبلية ” أثار إنتباهي تعليق لأحد القراء و يحمل إسم “همام إبراهيم” و قال في تعليقه : ” الفاضل د. طارق، سؤال، هل يتم استشارتكم أو الاستئناس برأيكم من قبل أي مسؤول من الجالسين على كراسي المسؤولية ؟ إن تشخيص الحال للدول التي ذكرتها لا يخفى على أحد، دول مريضه عاجزة، ألا تستحق المساعدة من خارج المنظومة الرسمية، وهل الكتابة في الصحف مؤثر ومحفز حقيقي ومستفز ل”مؤخرات” من يجلسون على كراسي القرار؟ أو أن تشكيل (لوبي حكماء) من خارج المنظومة الرسمية وبكافة التخصصات لإيقاظهم من سباتهم ليكونوا اكثر تواضعا والاستماع والاخذ برأي من هم اكثر منهم علما ومعرفه ؟ لكم جزيل الشكر والعرفان”
و بدوري أشكر جميع القراء على ملاحظاتهم القيمة، و أسلوبهم الراقي في الحوار و النقاش، و لعل هذا من ضمن الأسباب التي تجعلني أخصص حيزا من وقتي للكتابة، خاصة و أن هناك تفاعل إيجابي، فالعنصر الغائب لدى حكام المنطقة من المحيط إلى الخليج، غياب العقلانية و الحكمة بل حتى لدى قطاعات واسعة من النخب ” المثقفة”، التي بعضها يطبل للأنظمة تحقيقا لمكاسب و مغانم، و بعضها الأخر يمارس معارضة تفتقد بدورها للواقعية و العقلانية، نحتاج لتحكيم صوت العقل و الوسطية و الاعتدال، و تغليب المصالح المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد، و بين شعوب المنطقة…
أما هل يستفيد الحكام من نصائحي أو لا ؟ فمن المؤكد أنه لا علاقة لي بهم أصلا، فمنذ شبابي إخترت الابتعاد عن المناصب الرسمية لأسباب يطول شرحها، لكني عمليا لست بعيدا عن الشأن العام ، فكاتب المقال من الشخصيات التي كان لها دور في دعم حراك 20 فبراير بالمغرب ، نضاليا و إعلاميا، بصفتي رئيس لمؤسسة إعلامية منذ 2011 ، و كاتب رأي و أستاذ جامعي مهمته النضال بالكلمة ..
و لعل الكلمة الحرة لها أثر بالغ الأهمية في التأثير على الرأي العام ، و لولا ذلك لما إتجهت سلطات الضبط و القمع و تكميم الأفواه من الرباط إلى المنامة إلى ضبط منسوب حرية الرأي و التعبير، و مراقبة وسائل الإعلام و خنقها إقتصاديا إذا إختارت الوقوف في صف الأغلبية، و إعتقال الصحفيين و المدونيين ، و العلماء الذين إختاروا قول كلمة الحق و إنكار المنكر و الأمر بالمعروف…
و لا أخفي عليكم إخواني أخواتي أننا نحن معشر الصحفيين و الإعلاميين و الأكاديمين ، نتحرك فوق أرض حبلى بالرمال المتحركة و البيض الذي يتهدده الكسر ، حقل من الألغام يمكن ان ينفجر في وجهك في كل وقت و حين…نحن أكثر الناس يرغبون في حرية الرأي والتعبير، و النقد و المساءلة و الشفافية لأنها قيم تسهل عملنا، و تجعلنا نتحرك بأريحية أكبر، و لا نخشى من الغلق أو المنع، و التضييق أو الخنق الاقتصادي أو الإفلاس، لأننا نستثمر من جيوبنا نؤدي أجور العاملين من جيوبنا، و أن تؤسس مقاولة إعلامية في حقل ألغام فذلك قمة المغامرة، بل إنه الجنون…
بعض القراء عن جهل أو نقص معرفة يعتقد أن كلمة الحق سهلة..و متاحة بكل يسر، و الواقع غير ذلك ، كم كنت أتمنى أن أغادر هذا المجال المحفوف بالمخاطر ، كم كنت أود لو أني بقيت مجرد رجل تعليم يحصل على أجرته في أول الشهر و همه دفع أقساط البيت و السيارة و تربية الأبناء، أو مربي أغنام و أبقار أو مقاول غايته توسيع و تضخيم ثروته…
لكن للأسف عندما تتسع مدارك المرء و يعرف أكثر يصبح صمته و سكوته مشاركة في الجريمة …المخاطر يقابلها شعور بالطمأنينة، و أننا نجاهد و نكافح في سبيل بناء وطن يصلح للعيش لنا و لأبناءنا و أحفادنا ، أخاطر حتى أقف أمام المولى عز وجل و ذمتي بريئة من جريمة الصمت، و المشاركة في نصرة الباطل، فالقناعات هي التي تصنع المواقف…دور الصحافة الحرة هي توعية القارئ بإتاحة المعلومة الصحيحة، وتوجيهه نحو الرأي السليم بحيادية و موضوعية…
البعض من السهل عليه الانتقاد ووضع العصي في عجلة من يريد التغيير، ليس لأنه لديه رؤية أو تصور مغاير، لا لأنه فقط لا يرغب في رؤية من ينتقد خنوعه و صمته…يا سادة لسنا عبيدا ليكون همنا بقايا الطعام و الفتات، الحرية بنظري اولي من الخبز…الوطن هو السقف المشترك الذي بسلامته نسلم جميعا، هو السفينة التي علينا حمايتها من كل خرم أو ثقب يعرضها للغرق..أحيانا يصبح السكوت جريمة مكتملة الأركان، و للصحافة و الإعلام دور بالغ الأهمية في سلامة الوطن أو في غرقه ..
ذلك أن، الصحافة و الإعلام إحدى أهم المؤسسات المسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية ضمن المجتمعات الحديثة، لذلك فإنها تقوم بالعديد من الوظائف و لعل أهمها:
– وظيفة الاستطلاع أو مراقبة البيئة
-وظيفة الشرح والتفسير والتحليل
-وظيفة الإسهام في تكوين الرأي العام
-وظيفة التسلية والترفيه
-وظيفة تنمية العلاقات الاجتماعية
-وظيفة توثيق الأحداث
-الوظيفة الإخبارية
-وظيفة الخدمات العامة
بهدف توضيح دور ووظيفة الإعلام بالمجتمع ، لجأ الباحثون وخبراء الإعلام إلى استخدام تشبيهات مبنية على أساس العلاقة بين “الانسان والكلب” و ميزوا بين ثلاث وظائف أساسية:
أولا- وظيفة كلب المراقبة: watchdog وتعد هذه الوظيفة امتدادا لمفهوم السلطة الرابعة، أي وسائل الاعلام تسعى لأن تكون رقيبا على كل ما يدور في المجتمع من مدخلات ومخرجات، بما في ذلك مراقبة المؤسسات الاجتماعية النافذة في المجتمع.
ثانيا- وظيفة كلب الحراسة guarddog: وتعني هذه الوظيفة أن وسائل الاعلام تقوم بحراسة المؤسسات النافذة في المجتمع فقط، وتكون في أشد الحرص على متابعة العناصر الطفيلية التي تدخل الى المجتمع وتعكر صفو ونقاء العلاقة القائمة.
ثالثا- وظيفة الكلب الأليف: lapdog وتعني أن وسائل الاعلام ترتمي في حضن المؤسسات الاجتماعية، دون أن تكون اداة مستقلة، ودون ابداء أي مساءلة للسلطة، ودون الالتفات الى الآراء والاتجاهات الأخرى في المجتمع وبالذات التي لا تتفق مع مصالح المؤسسات النافذة في المجتمع.
وعموما، يمكن القول أن الصحافة أو الاعلام في بلادنا العربية تندرج تحت نموذجين رئيسيين هما: اعلام السلطة، وسلطة الاعلام.. فإعلام السلطة يعني أن الاعلام هو أداة في يد السلطة تحركه لتحقيق سياساتها وبرامجها. أما سلطة الاعلام فتعني أن الاعلام يمتلك سلطة فاعلة في المجتمع تهيئه لدور يعكس صوت المواطن ويحقق في الشأن العام باستقلال وشفافية بعيدا عن تأثير وضغط المؤسسات الاجتماعية…
و في المغرب بالرغم من النواقص التي تعتريه، إلا أننا لا ننكر أن هناك هامش واسع من حرية التعبير مقارنة بباقي البلدان العربية ولا سيما بلدان الخليج، فكاتب المقال لطالما عبر عن رأي معارض و لم يتعرض يوما للمضايقة ، بل إنه إمتلك مؤسسة إعلامية مالكة لقناة فضائية و صحف مكتوبة و إلكترونية و أدارها بنفسه منذ 2011 ، نعم عانينا من صعوبات إدارية و مالية، و إشكالات قانونية وفراغ في بعض النصوص القانونية المنظمة للبث الفضائي، و لكن لا يمكننا الادعاء بأننا تعرضنا لمضايقات أمنية ، على الأقل بشكل مباشر..
نحن ضد ترويج الإشاعات و الأخبار الزائفة و ترويج التفاهة و الإسفاف، وتعلمنا على أيدي أساتذتنا أن مهنة الصحافة تقتضي التأكد من الخبر و تحري الصدق قبل النشر، لكن إذا كان الخبر صحيحا فلا يهم حينئد موقف السلطة، فمهمة الصحافة الحرة و النزيهة هو خدمة المجتمع و تنوير الرأي العام، و ليس التطبيل للحكام أو تلميع صورة النظام، أو السكوت عن الفساد و السياسات العمومية الخاطئة، و لسنا من أنصار شهادة الزور، فقول الحق واجب ديني و أخلاقي ووطني، و الصحفي الذي يعجز عن قول الحق فعليه التواري إلى الظل بدلا من تزييف الحقائق..
و على صناع القرار الأمني و السياسي بالدولة المغربية، أن يدركوا جيدا بأن نجاح البلاد في تجاوز تداعيات الربيع العربي و احتجاجات 20 فبراير 2011 ، لم يتحقق بالاعتماد على الفعالية الأمنية أو السياسات القمعية ، فالأمن في الرباط، لم يمس المتظاهرين بسوء طيلة فترة الاحتجاجات، و قد كنا في الصفوف الأمامية، لكن البلاد خرجت من الأزمة بفعل إرادة المغاربة، ووعيهم بخصوصية التجربة المغربية، و كذلك مرونة العاهل المغربي في حينه، و الذي استجاب لنداء الشعب، و غير قواعد اللعبة بما يتماشى والمعطيات الجديدة، ومر المغرب من هذه التجربة وفق مبدأ “رابح –رابح” فالنظام ضمن الاستقرار و الشعب تنفس الحرية، لكن ما حدث من بعد هو محاولة للانقلاب على إنجازات 20 فبراير الحقوقية و السياسية، و على التزامات العاهل المغربي في خطاب 9 مارس، وما كرسه الدستور المغربي من عقد اجتماعي جديد عنوانه الأكبر احترام إرادة الشعب و تكريس الحرية و الكرامة..
لا نريد أن يتم استغلال أزمة وباء كورونا، و هي محنة شديدة ترهق كاهل ملايين المغاربة وتضر بحاضرهم و مستقبلهم، و سياسة تصفية الحسابات تضر بالدولة و المجتمع، فمحاولة الانتقام من نشطاء التواصل الاجتماعي الذين فجروا حملة مقاطعة بعض المنتجات الاساسية احتجاجا على استغلال المستهلكين و رفض الجشع، و استغلال السلطة لتحقيق مكاسب اقتصادية عملا بمبدأ زواج السلطان بالتجارة، و كذلك الانتقام من نشطاء حراك الريف و جرادة و حراك 20 فبراير، كل ذلك لم و لن يخدم الاستقرار السياسي و السلم الاجتماعي الذي أصبح أكثر هشاشة، بفعل فشل السياسات التنموية المتبعة، و أيضا نتيجة للتراجع عن الكثير من الثوابت التي تم إقرارها منذ حكومة التناوب التوافقي التي ترأسها “عبد الرحمان اليوسفي” ، و أيضا التراجع عن توصيات هيئة “الانصاف و المصالحة” و غيرها من الانجازات الحقوقية التي تم إقرارها للقطيعة مع سنوات الرصاص السيئة الذكر…
انتقاد السياسات العمومية لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه جريمة، و إنما ظاهرة صحية و تدافع إيجابي يقود حتما إلى الأفضل، لأنه يكشف الاختلالات و الانحرافات العمومية، و يدفع باتجاه الاصلاح و الانتقال السلس للسلطة، و تحقيق التغيير الأمن .. فدوام الحال من المحال فاعتقال الأصوات المنادية بالتغيير و الإصلاح، و الرمي بهم في غياهب السجون و تعريضهم للإهانة، لم يفرز إلا خصام و عداوة تنخر جسد المجتمع المغرب، و يصعب تحمل تكاليفها، خاصة في ظل جائحة تحرق الأخضر و اليابس..
على الدولة المغربية في ظل هذه الظروف التي تهدد الاقتصاد و الاستقرار السياسي و الأمن الاجتماعي، و ارتفاع منسوب السياسات العدائية من قبل بعض دول الجوار الجغرافي ضد المغرب ووحدته الترابية ، اتخاذ إجراءات و تدابير تعزز روح المواطنة و التضامن و احترام حرية الناس و تقديس حقوقهم، فالإصلاحات السياسية و الحقوقية في هذه المرحلة ضرورة حتمية للخروج من عنق الزجاجة بأقل التكاليف..و من ذلك أيضا طي تبعات ملف حراك الريف بإطلاق سراح كل النشطاء و معتقلي الرأي، و في مقدمتهم “ناصر الزفزافي” و غيره من المعتقلين، فالرجوع إلى الحق و الاعتراف بالخطأ و الاعتذار عنه فضيلة، أما الاستمرار في الخطأ و نهج سياسة الاستعلاء و الاستكبار، وصم الأذان عن النصيحة بالحسنى و إصلاح ذات البين، فلن يقود إلا إلى دورة من الأزمات ..
الظروف الراهنة تتطلب القطيعة مع ممارسات الماضي و الانفصال عن عقلية القمع و الاستبداد، و الانتقام من المعارضين و المصلحين، و المتضررين و ما أكثرهم قبل و بعد جائحة كورونا، فإذا عجزنا عن مواجهة تأثيرات الجائحة اقتصاديا و صحيا و اجتماعيا، فأضعف الإيمان أن نحترم حرية الناس في التعبير و في النقد و الاحتجاج و إحترام الرأي المعارض و التوقف عن سياسات تكميم الأفواه..
كان في نيتي كتابة مقال عن العلاقات المغربية الجزائرية، لكن من واجبي الرد على ملاحظات بعض القراء، و سنحاول في المقال الموالي إن شاء الله تحليل أبعاد التصعيد الجزائري و كيف ينبغي للمغرب مواجهة هذه الهجمة الشرسة على مصالحه و أمنه القومي ووحدته الترابية ، فبموضوعية شديدة بعض مواقف الجزائر في الفترة الأخيرة، كان فيه تعسف شديد و مجانبة للصواب بحق المغرب…حفظ الله بلداننا و شعوبنا من كل سوء..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق أسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة .
د. طارق ليساوي