كانت بداية القصة عندما راودتني السياسة عن نفسها وأنا في بداية اعتناقي مهنة المحاماة، مباشرة بعيد انسلالي من شقاوة الدراسة ومعاناة الطالب في الجامعة.. كانت الساحة في بلادي حبلى بجنون السياسة وإرهاصاتها.. أحزاب تولد ومشاريع سياسية تتشكل وأغلبية تهيمن ومعارضة تتربص..
كان الخيار بالنسبة لي صعبا، بين الوظيفة وإغراءات المال والتربح في كنف أغلبية تطل من برجها العاجي من جهة، وبين ما تمليه نفس الشاب المتحمس لوطن تتكالبه جماعات من الأثرياء وأصحاب النفوذ وأتباعهم تعتبره كعكةً سائغة يتقاسمونها.. من هنا كان علي أن أغلِّب جانب الإصلاح والوقوف جنبا إلى جنب مع من يسعون لوطن لا غُبن فيه لأحد، وطن ٍ يستوى في جنْي خيراته الضعيف والقوي، الأسود والأبيض.. فكانت المعارضة الإيجابية محط رحلي زهاء ثلاثة عقود من الزمن تسلقت خلاله مطبات المعارضة الصعبة مناضلا بين أقراني أحيانا، وقائدا أسوس النخب أحيانا أخرى، تعرضت لكل إكراهات السياسة والنضال، سُجنت وتعرضت للضرب وصنوف الإهانة والحرمان.. وكذلك لم أسلم من إغراءات الأنظمة المتعاقبة ووعود الساسة المغرية.. رغم رفضي لعروضهم وإصراري على العض على المبادئ والذب عن مصالح البلاد والعباد، إلا أنني لم أك خلوا من البحث عمن يوصل سفينة الوطن إلى بر الأمان.. وهنا تبينت ضالتي في رجل من أبناء هذا الوطن.. تحدثت معه قبل أن أتعرف عليه فعلمت من خلال ذلك اللقاء أنني أمام شخص من طينة خاصة، شخص يحمل همَّ الوطن وهموم المواطن من خلال مشروعه الواعد وفهمه الساطع وشخصيته المتوازنة، فقررت أن أكون في ركبه الميمون علَّني أشفي غليلا كاد الوهن وعثرات السقوط يوصلانه إلى مهالك الفشل..
محمد ولد الشيخ الغزواني وفي أول محطة له أمام الجماهير عند ما أعلن ترشحه لقيادة البلاد حرك المشاعر، فاشرأبَّت الأعناق وامتدت الأعين، وشُدت الآذان إلى كلماته التي يتحدث كل حرف منها عن صدقه وأمانته فيما يقول.. وعود بدأت معالمها تتشكل ناصعة البياض عندما وصلت مراحل التطبيق، لم تكن حملة الدعاية أثناء الترشح وما تحمله من تعهدات بمنأً عن الفعل المباشر بعد وصوله لسدة الحكم..
وفي أول لقاء مباشر مع شعبه بعد التنصيب ظهرت لوحةٌ وطنية لفتت الانتباه في مدينة اكجوجت، عندما عانقت القلوبُ القلوبَ فوق منصة ذكرى الاستقلال لتنطلق من هناك، وأمام كل ألوان الطيف السياسي الموريتاني، قرارات لامست النفوس المكلومة وارتاحت لها الأرواح الملهوفة، وفى مقدمتها قرار دعم الضعيف والمحتاج، لتنساب الوعود الصادقة فتظل أيقونة تتخلل الإنجازات الكبرى..
ومنذو بداية عهده الميمون تم إخضاع الإنفاق العام لسياسة دعم من يستحقون الدعم، فكانت تلك السياسة أول لبنة في صرح بناء الإنسان الذي ظل بعيدا عن إنسانيته.. وهنا وجدَتْ كل قطاعات الدولة نفسها في مشروع ضخم تم إنشاءه لخدمة فئات المجتمع الهشة فى المدن والقرى النائية والأرياف فكانت (تآزر) إسما على مسمًى، يحمل هموم الناس وطموحاتهم.
ولم يستطع الإرث القاسي الذي وجده الرجل أمامه، ولاجائحةُ كورونا التى ثبطت عزائم الدول العظمى، وحطمت اقتصادها، وكانت إكراهاتُها حجر عثرة كأداء أمام أي بناء، لم تُثبط عزيمة الرجل ولا طموحه الواعد، بل إن تعهداته ظلت تُغالب تلك المصاعب وتُناطحها لتتحقق الآمال وتصدق الأقوال.. شهدت له بذلك مشاريع لامست الثروة الحيوانية في الحوضين، وأماكن انتجاعها في كل مراعي البلاد الشاسعة.. وفجرت الأرض في حوض النهر مياها ومزارع.. وناغت بها الحيتان في أعماق البحر.. وبرقت لها كنوز الأرض في أحشاء المحيط وفي تلال إينشيري وتازيازت وأعماق الصحراء في مجابات تيرس الممتدة..
ناهيك عمَّا ذلّلته الطرق التي شيدها الرجل من مسافات داخل المدن الكبرى والصغرى، وبين القرى والأرياف، وما أنارته الكهرباء من سواد مدلهم وتلقفته الأفواه الظمآ من مياه عذبة سائغة للشاربين..
وفي مجال إنجازاته الدبلوماسية تم تطبيع العلاقات مع الدول الصديقة والشقيقة، حيث استعادت البلاد مكانتها الطبيعية في محيطها الدولي، فنالت ثقة الشركاء، وأصبح المواطن الموريتاني خارج بلاده يتمتع بمعية حكومته أينما حل وحيثما ارتحل، وما نحن ببعيد عن صدق المشاعر اتجاه هذا المواطن، ويتمثل ذلك في إطلاق سراح المواطنين الموريتانييْن الذين تم اختطافهما مؤخرا من طرف إرهابيين في مالى.. تم ذلك بصمت وهدوء وسياسة تعكس خلفية شخص محنك يعلم من أين تؤكل الكتف، وما تلك اللفتة إلاّ إحدى لفتاته الموفقة وإنجازاته الدبلوماسية الكبرى، كل ذلك وغيره تحقق خلال سنتين استثنائيتين فقط..
سنتان مثلتا أقل من نصف المأمورية الأولى.. وهنا تنفست الصعداء ووقفتُ هنيهة أمام نفسي أُسائلها!! هل تحقق صدق حدسي ونبوءتي في ذلك اليوم الذي تخيلت فيه أن الآمال مع السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لم ولن تخيب أبداً .