قالت والشرَرُ يتطايرُ من صوتها :" أرجو أن تعلمَ، أن الذي لا يسأل عنّي مرة سأتجاهلُه كل العمر". عَجِبتُ لتناقضِ عبارتها مع نعومةِ محيّاها، وحِرتُ في تفسير ردةِ فعلٍ تحمل الكثير من المغالاة من سيدةٍ تتردّدُ منذ سنوات على مراكز تعليم "اليوغا"، ومن المُفترض أن قلبَها مفعمٌ بالحب وعقلَها اعتاد على الهدوء، وكلامَها يُترجم رجاحة العقل وسرّ المحبة.
غريبةٌ ردود افعال البشر، بعضُها يلتصق بنا منذ طفولتنا، نرِثُه من أجدادِنا وأهلِنا، يتسلّل الى جيناتِنا، يحتلُّ الخلايا، فنُكرّر عن غير وعيّ، ردة فعل أهلِنا كما هي، رغمَ الفروقات العلمية والإجتماعية والنفسية بين جيلين. وبعضها الآخر نكتسبُه من الحياة.
المشاعرُ الإنسانية، أو ردودنا العاطفية، كانت مُحتقرةً في تاريخ البشرية. أثارت نقاشاتٍ فلسفيةً عديدةً على أساس أنها تُشكّل عائقاً كبيراً أمام العمل وإكتمالِ الأفعال وتحقيقِ النجاح وترسيخِ شخصية الفرد. كان يُنظر اليها على أنها تعيقُ أحكامَنا العقلية الصحيحة، وتزيد ُأضطرابَ وضبابيةَ الرؤيا. كانت في الفلسفةُ " الرواقية" التي أسسها الفيلسوف اليوناني زينون دو كيتيون في القرن الثالث قبل الميلاد، تقول إن السيطرة على عواطفنا وردودِ أفعالنا هي الطريقةُ الأسلم للوصولِ الى هدوء الروح ونجاحِ العمل. كذلك قال الفيلسوف وعالم الفيزياء والرياضيات الفرنسي رونيه ديكارت : إن أي خيار حقيقي وناجح في الحياة ينبغي أن يزيل من أمامه كلَّ ردة فعل عاطفية.
كانت الأمور تسيرُ على ما يُرام بين سمير ولينا منذ التقيا صُدفةً في ندوة حول " حاجة الوطن العربي للإنتاج العلمي". كانت لينا زاخرةً بالحيوية شكلا ومضمونا. يتدفّقُ كلامُها كنهرٍ صافٍ بالمعلومات الدقيقة. وكانت كلماتُها الأجنبيةُ بين جملها العربية، تبدو كأغصان شجرةِ ياسمين طفت على سطح الماء. وعيناها السوداوان تلمعان جمالا وذكاء فوق ابتسامتها المضيئة.
ثمة أسرارٌ في هذه الحياة العابرة لا يعرفها غير خالقها. كلُّ ما اكتشفه وقاله الإنسان حتى اليوم من أسباب تجاذب شخصين، لا يعدو كونه شرحاً لظواهر ما حصل وليس معرفةً ببواطن ما تسبّب بحصوله. كان لدى سمير تفسيرٌ لا يستندُ الى شيء، سوى الى متعةِ التفكير به، ومفادُه أن الأرواح تحوم في الفضاء وفوقنا وحولنا طيلة الوقت، بينها ما يتلاقى صُدفةً فيرسم قوسَ قزحِ سعادةِ الحياة، وكثيرُها يبقى هائماً يبحث عن صنوه. لذلك ينجح الحب والزواج عند البعض، ويفشل فشلا ذريعا عن كثرين حتى لو إستمر 50 عاما. هي مسالةُ لقاء روحين. الم تنقل السيدة عائشة رضي الله عنها عن رسول الله قوله :" الأرواح جنودٌ مجنّدةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف؟"
ما أن أنتهت لينا من محاضرتها، حتى أخذ سمير الكلام، مثنيا على غزارة المعلومات، وسحر البيان في التبيان، وقال ممازحاً الحضور، وراغبا بأن تسمع هي لا الحضور:" نحنُ أمام إكتشاف هائل اليوم، ليس بالمعلومات القيّمة، وإنما بإنسانة تعرفُ تماما كيف تُعطي لكل كلمةٍ معناها، ولذلك أعتقدُ أنها نجحت بعملها بقدر فشلِها في الحبّ". قهقه الجمهور، وفوجئت لينا بما قال، لكن ضحكتَها حجبت المفاجأة وفاقت كل ضحكات الجمهور، أو أن سمير لم يسمع غيرها.
كان لا بدّ من أن يحتلّ تعليقُه مقدمة الحوار بينهما وهما واقفان حول الطاولة العالية والمستديرة في بهو الفندق. سألته بكثير من الغرابة وقليل من الابتسام:" كيف عرفتَ أني فاشلةٌ في الحب، وهذا لقاؤنا الأول؟ ثم هل كان من المفيد زجُّ هذا التعليق بعد ندوة علمية؟". وضّع سمير كأس عصير البرتقال قرب الكتاب ذي الغلاف الأزرق، وقال بكثير من الثقة بالنفس :" إني أعرفُك منذ زمن طويل، وأعرف أن لونك المُفضّل يُشبه لون هذا الكتاب، وأنا تعمّدتُ قول ما قلته في ختام الندوة، ليس لأخفف من وطأة يومين من المعلومات العلمية الجافة، وإنما كي ألفت نظرك".
+" تعرِفُني منذ زمن طويل؟" سألَت وقد غاب ما بقي من إبتسامتها على ثغرها واحتلت الدهشةُ كل الثغر وتفاصيل الوجه والعينين.
أجاب دون أن يرمش له جفن:" أعرفُك لأني أعرف نفسي، وسأحبُّ فيك كل ما أحبُّ في نفسي، ويُقلقني أن يكون فيك، ما أكرهه فيّ، لكني مدركٌ أن طريقنا المُشترك بدأ الان، أعرف أن هذا الكلام مفاجيء، وأنه سابقٌ لأوانه، وأنه غريبٌ، لكن أمامك احتمالين: أما الهروب الآن، أو القبول بقدر لا فكاك منه".
كادت تحملُ ملفاتِها وكتبَها وتمشي. مرّ شريط حياتها بلحظة أمام ناظريها، رأت نفسَها تسيرُ صوب المستقبل منذ الآن، تتعثر في السير، تسقط وتقوم، تقع كُتبُها أرضا ثم تلتقطها وتركض صوب المجهول، وكلما سقطت وقامت، رأته أمامها يبتسم، ويأخذ بيدها. خافت، أو هكذا بدا لها. خافت أن تكون هي أيضا فكرت بما فكّر به، تماما بما فكّر به.
ما الذي فتح باب القلب فجأة على مصراعيه؟ . كانت بالأمس ليلا، فقط منذ ست عشرة ساعة، تقول لكارولين، إنها اعتزلت الحب والغرام والزواج، أخبرتها أنها ما عادت تضع في سيارتها سوى أغنية :" اعتزلت الغرام" لماجدة الرومي. مضى وقتٌ طويل منذ آخر قصة حب عاشتها، قبل أن تنجح في لملمة نفسها وإعادة تركيب حطام نفسها. لم تكن مستعدة أبدا، لا الآن ولا بعد عشر سنوات، للخوض في تجربة أخرى. لم تترك أغنية للحرية الا واستمعت اليها، ولم تقع عيناها على قصيدة أو كتب أو مقالات عملية عن أهمية الوحدة وحب الذات الا وقرأتها.
هي تقع وتنهض، وهو يقف أمامها مُبتساما، يُمسك بيدها، يُلملمُ معها كتبها التي تناثرت أوراقا أمامها. قرّرت أن تهرب من القلق، لكنها وجدت نفسها هاربة صوبه، تخبره تفاصيل حياتها اليومية، فتكتشف أنها يعرف الكثير منها، كما لو أنه عاش معها. لو تأخر بإرسال نص قصير الى هاتفها، تشعر بالقلق، ثم تضيء البسمُة كلَّ وجهها حين تسمع رنةَ الرسالة.
منذ يومين لم يتصل سمير. نظرت الى الهاتف عشرات المرّات لتتأكد من أنها ما زالت تقرأ آخرَ رسالةٍ منه وصلتها قبل يومين. لا تريد المبادرةَ الى الإتصال به. في موروثات جيناتها ما يقول إن في المبادرة تنازلا، وإن التنازل عدوُ الكرامة. هكذا كان والدُها. لا شك أنها ورثت عنه هذا النزوع صوب العناد على حساب المشاعر. سارعت الى رمي لوازم الرياضة في حقيبتها الزرقاء. ربطت شعرها خلف رأسها. أرتطمت قدمها بحافة السرير وهي تخرج مُسرعة صوب سيارتها. " اعتزلتُ الغرام" قالتها عنها ماجدة الرومي. رفعت صوت المذياع الى أعلاه. لكن عينيها كانتا تسترقان النظر الى شاشة الهاتف اللعين الذي لم يرّن برسائله منذ يومين.
قالت والشررُ يتطاير من صوتها :" أرجو أن تعلم أن الذي لا يسأل عنّي سأتجاهله كل العمر".
يعرف تماما أنها ما زالت في صراع بين الرغبة بالهروب اليه والهروب منه، ما زالت تتعثر وتنهض، وهو ما زال في مكانه، واقفا أمامها، يبتسم ويبسط كفّه لتضع كفّها الصغير فيه.
هما يعرفان تماما، أن طريقهما واحد، فحين تلتقي الأرواح، تسقط كل العوائق من حولها. هي لم تقل له حين التقيا، أنها هي أيضا كانت تعرف عنه كلّ شيء وأنها قرأت له كل ما كتب، وأنها أمضت أربعة أعوام تهربُ منه، وهي مدركةٌ أنها هاربةٌ منه اليه. ففي كل ما كتب كان يقول ما تفكّر به قبل أن يتعارفا.
من كتابي : " تأملاتٌ من على شرفةِ الدهر"