منذ انتهاء أشغال قمة العلا التي مهدت لإصلاح العلاقات الخليجية الخليجية وعودة قطر إلى مجلس التعاون الخليجي بعد قطيعة دامت نحو أربع سنوات تواترت الأحداث القادمة من الرياض بشكل متسارع ولكن بهدوء وبعيدا عن التشنج والأضواء بما يوحي بأن تغييرات قد تهب على المنطقة معلنة نهاية مرحلة وبداية أخرى.. والأمر لا يتوقف عند حدود تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والليونة التي اتصفت بها تصريحاته إزاء إيران فحسب وهو ما اعتبر بمثابة المقدمة نحو كسر الجمود الحاصل بين المملكة وإيران منذ قطع العلاقات بينهما على خلفية الاعتداء الذي تعرضت له سفارة المملكة في طهران قبل ست سنوات فضلا عن تداعيات الحرب المستمرة في إيران والحرب المنسية في سوريا.. ليس من الواضح إن كانت السعودية تتجه إلى الاقتداء بالإمارات والبحرين وإعادة فتح سفارتها في دمشق ولكن عديد المؤشرات باتت تؤكد هذا الأمر وانه ربما تكون هناك بعض الاتصالات عبر بعض القنوات التي تعد لمثل هذا الحدث بعد تسع سنوات من القطيعة منذ علقت جامعة الدول العربية عضوية سوريا.. وفي انتظار ان تتضح الصورة فقد يكون من المهم التأكيد على أن الأصل في الأشياء هو الحفاظ على العلاقات بين الدول العربية وهذه مسألة لا تقبل المزايدات والابتزازات وان كل قطيعة بين الدول العربية لأي سبب كان تزيد في إضعاف وعزل هذه الدول عن بعضها البعض وإتاحة الفرصة للأطراف الخارجية للتدخل بأي ذريعة كانت..
لا خلاف أن أول وأهم القواعد في العلوم السياسية انه لا وجود لازمات ثابتة أو دائمة في العلاقات بين الدول وان لعبة المصالح متغيرة وان عدو الأمس حليف الغد والعكس صحيح أيضا، ندرك جيدا أن الأطراف العربية مجتمعة أضعف وأوهن من أن تكون صاحبة القرار في الدفع إلى إنهاء الحرب المستمرة في سوريا أو الحرب في اليمن تماما كما أنها لم تكن صاحبة القرار في إعلان تلك الحروب ولكنها كانت مجرد أداة في صناعة الأحداث في المنطقة والتي تدخل اليوم منعطفا جديدا بعد عقد من الاهتزازات والصراعات التي أججت المنطقة وجعلتها أشبه ببرميل بارود..
لسنا أيضا بصدد التكهن بما سيكون عليه الوضع في المنطقة ولكن الأكيد أن جملة من التحركات اللقاءات والمفاوضات المسربة عن قصد أو عن غير قصد تؤشر إلى أن حالة الحرب واللاسلم لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية. بل انه من الجنون القبول باستمرار النزيف الحاصل في سوريا واليمن دون تأمل الأرقام والإحصائيات المرعبة حول عدد الضحايا وحول الخسائر البشرية والمادية الرهيبة التي أعادت دول الصراعات الى زمن الجاهلية الغابرة..
وبالعودة إلى أصول اللعبة الديبلوماسية والمفاوضات المعلنة أو السرية فقد بدأت تسجل لقاءات ومشاورات بين أطراف كانت حتى الأمس القريب ترفض أن تتواصل ومنها ما تم تسريبه عن لقاءات على مستوى رفيع بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين في العراق ويبدو ان الحديث المطول لولي العهد السعودي حول إيران ما يعكس توجها نحو الانفتاح بين الطرفين وربما منعرجا جديدا في اتجاه استعادة البوصلة وتغليب منطق الحوار والديبلوماسية على خيار القطيعة والتنافر والعداء بعد تصريحات ولي العهد السعودي في مقابلة تلفزيونية بـ”حرص بلاده على إقامة علاقات قوية مع إيران، وقال إنه يتمنّى لها كدولة جارة كل الازدهار”…
آخر الأخبار تشير إلى أن ولي عهد أبوظبي سيكون اليوم في السعودية لمناقشة حرب اليمن والأوضاع في سوريا ومستجدات ملف إيران النووي. الزيارة تأتي بعد خمسة أيام من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لأبوظبي..
ولكن الأهم في خضم الأحداث المتداخلة ما أكدته مصادر ديبلوماسية رفيعة المستوى في دمشق أن وفدا سعوديا برئاسة رئيس جهاز المخابرات الفريق خالد الحميدان زار العاصمة السورية أول أمس الاثنين، والتقى الرئيس السوري بشار الأسد ونائب الرئيس للشؤون الأمنية اللواء علي المملوك، وجرى الاتفاق على أن يعود الوفد في زيارة مطولة بعد عيد الفطر لإعادة فتح السفارة السعودية في دمشق، كخطوة أولى لاستعادة العلاقات في المجالات كافّة بين البلدين.. وحسب نفس المصادر التي أوردتها “الرأي” اليوم فان الوفد السعودي أبلغ السوريين بأن بلاده ترحّب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحضور مؤتمر القمة العربية المقبل في الجزائر في حال انعقاده.. وطالما لم يتم تكذيب الخبر من أي جهة كانت فيمكن اعتبار ان قنوات التواصل بين السعودية وسوريا انطلقت فعلا نحو تطبيع العلاقات او بالأحرى نحو عودتها إلى طبيعتها لتسير بذلك السعودية على خطى الإمارات والبحرين اللذين أعادا فتح سفارتيهما في هذا البلد المنكوب..
فليس سرا ان الخلاف السعودي السوري يتمحور حول علاقة سوريا القوية والإستراتيجية مع إيران، ومع تقدم محادثات فينا حول الملف الإيراني وإمكانية التوصل الى إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وربما الدفع نحو رفع العقوبات الأمريكية عن إيران، فقد تتغير الحسابات نحو تطبيع العلاقات بين طهران والرياض، وبين الرياض وسوريا بما يساعد على إيجاد مخرج للازمة في اليمن وإنهاء هذه الحرب التي طال أمدها والتي كلفت كل الأطراف دون استثناء خسائر تجاوزت كل التوقعات دون اعتبار لما بلغه المشهد في اليمن من انهيار ودمار وخراب وتشرد وانتشار للعنف والإرهاب والأمراض والأوبئة.. ومعلوم أن الرياض جمدت علاقاتها مع المعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات التي كانت تتّخذ من الرياض مقرا لها، وأغلقت مقرّها الرسمي.. لم تعرف أسباب هذا التحول ولكن الأرجح أن المعارضة السورية التي تحولت إلى معارضات لم تعد مقنعة لأي طرف خارجي هي التي فشلت في اكتساح المشهد او كسب تعاطف الرأي العام السوري في الداخل والذي ظل وحده يدفع ثمن الأحداث الدموية في سوريا..
هل يمكن التفاؤل بعد كل هذه التطورات؟ سيكون من السابق لأوانه التبشير بمشهد جديد في المنطقة بدون حروب والحال ان النزيف وان تراجع فانه لم يتوقف نهائيا ولكن قد تهيئ هذه التحولات الأرضية نحو سيناريو غير سيناريو الدم والحرب.. بالأمس أعلنت الإمارات وصول طائرة رابعة، تحمل على متنها كميات كبيرة من لقاحات “كوفيد 19 لفائدة الأطباء السوريين..
حتى وقت قريب كان الثلاثي الإمارات وتركيا والدوحة اكبر الداعمين للحراك في سوريا واكبر المراهنين والداعيين لسقوط نظام الأسد.. وبعد عشر سنوات لم يسقط نظام الأسد وها هو الرئيس السوري يستعد لخوض سباق الانتخابات الرئاسية مجددا للفوز بدورة رابعة لن تكون مفاجئة في المقابل ظلت روسيا وإيران الداعم الأساسي لنظام الأسد وسبب استمراره..
إلى أين يتجه المشهد في المرحلة القادمة تلك مسألة أخرى؟ الأكيد أن السعودية التي دفعت ثمنا باهظا في الحرب على اليمن والحرب في سوريا تريد الخروج من هذه الأزمة والواضح أن الرهان على ولي العهد محمد بن سلمان في تفعيل هذا التحول لاسيما بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الذي أكد انه سيتعين التعامل مع ولي العهد السعودي لفترة طويلة..
موجة التغييرات بدأت أيضا في إعادة رسم العلاقات بين تركيا ومصر بعد سنوات طويلة من القطيعة بين البلدين استمرت منذ 2013 وستستقبل العاصمة المصرية اليوم أول وفد رسمي تركي بهدف كسر الجمود وإعادة العلاقات الى طبيعتها.. هناك تحركات وإشارات عن تحولات مهمة مرتقبة في المنطقة قد لا تتضح نتائجها فورا ولكن ان تحققت فقد تنهي عقدا من الدم والموت والخراب وضياع الأجيال ممن لم يعرفوا غير التشرد والارهاب والتطرف …ليس مهمة من تكون اليد التي تحرك الجميع وسواء كانت القوى الكبرى المتحكمة في لعبة المصالح الإقليمية والدولية اقتضت إنهاء المشهد المأساوي العبثي والانتقال لمرحلة جديدة أو سواء كانت صحوة عروبية متأخرة فان الاختيار بين الحرب و السلم كالاختيار بين الموت والحياة.. في نهاية المطاف فان قليلا من التعقل والحكمة في زمن الجوائح قد يساعد في تعديل البوصلة والقطع مع الارتجال والاختلال في التعاطي مع القضايا المصيرية للأمم والشعوب..
اسيا العتروس كاتبة تونسية