النقدُ الناعم المُلتزٍم بالضوابط البادئ عن حسن نية بذكر المحاسن و الإيجابيات المَبَيٍنُ بقوة في لطف للنواقص و السلبيات الخَاتٍمٍ بالبدائل و الاقتراحات المًوًجًهِ إلي ذوي الشأن العام علي اختلاف مراتبهم هو أحدث طَبَعَاتِ الشكر و الثناء تماما كما أن المديح الهابط و النفاق الخالص هو أقدم نسخ الشكرو أكذبها و أكثرها فسادا و إفسادا.
و النقد الناعم هو أصدق الشكر وأعذبه و ما كان النقد الناعم الهادئ الرشيد في كلام إلا زانه و ما كان المديح و "التصفيق" و الإسفاف في حديث إلا شانه.
و الحق أني لا أعلم في التاريخ السياسي و الإداري الحديث بظاهرة أضرت معنويا بهيبة المثقفين و الأطر و النخب الوطنية و المراجع المجتمعية أكثر من ما أضرت ظاهرة التملق و التزلف و النفاق السياسي و الإداري التي بلغت مستويات تشكل خطرا علي كرامة البشر و لو سُئِلْتُ لاقترحت تصنيفها تحت مصطلح" الانتهاك الذاتي لحقوق الإنسان" و لطالبت بإدراجها ضمن خانة خوارم المروءة و الجرائم ضد الكرامة الإنسانية.
و قد بلغت ظاهرة النفاق السياسي و الإداري حدا أن ذاع في الناس – و هم في ذلك مُبَالِغُون- أنها أوردت البعض مشارف "فقدان العقل " و إن كان من المتفق عليه أنها أسقطت العديد من أعلام المثقفين و السياسيين و صانعي الإدراك الوطني من قلوب الرأي العام و صَيًرَتْهُمْ "رموز نفاق سياسي" كما أبعدت آخرين عن الأضواء السياسية و الإعلامية حين اسْوَدًتْ وجوههم من إسفاف ما كتبوا أو نطقوا في لحظات ضعف: جشع أو جوع أو خوف أو " سُكْرٍ سياسي".
و قد فطنت كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت علي البلد إلي خطورة النفاق السياسي و الإداري و لذلك فمن المُلاحظ أن كل الأنظمة السياسية تصدع في بياناتها الأًوُلِ بالابتعاد عن المديح السياسي و ذم النفاق و التملق و تحميل بطانات التملق و النفاق السياسي الحربائية المسؤوليةَ الكبري عن فسادِ "الأنظمة البائدة" و الأخطاء التي ارْتُكْبَتْ خلال فترة الحكم انتهاكا لحقوق الإنسان أو سرقة للمال العام أو تهديدا للأمن القومي....
لكنه سرعان ما يتم اختراق تلك الأنظمة السياسية- و إن علي تفاوت- من طرف جحافل النفاق السياسي فتنقسم الأنظمة في ذلك إلي ثلاث فئات: فئة تستهويها صَنْعَةُ المنافقين فتعمل فيها عمل المُخَدٍرِ عَالِيٍ التخدير فتغدُوً أسيرة لها " مرتبطة بها" و فئة أخري تبَشٌ في وجوه المتملقين وقد تمنح لهم الامتيازات لكنها تستهجن أفعالهم و فئة قليلة ثالثة تمانع و تكافح ضد سيطرة لوبيات التملق متسلحة بمناعة متينة ضد غواية التملق و النفاق.
و رأيي أن رموز النظام السياسي الحالي يتوزعون بين من يمانع و يكافح ضد "اختراق أَرَضَةِ المديح الهابط "و من قد يَبَشُّ نادرا فى وجوههم و قلبه يلعنهم غالبا و لن ينزلهم إلا منزلتهم فى قلبه الذى يلعنهم و هو ما يطمئنُ على أن ظواهر المديح الساقط و التمييع الهابط إلى بَوَارٍ و انحسَارٍ،...
و تعتبر قطاعات السياسة و الإدارة و الإعلام القطاعاتِ الأكثر إصابة خلال العقود الماضية حين كان لا صوت فيها يعلو أصوات المنافقين و المتملقين حتي أضحي الرأي العام جاهزا لوصف كل سياسي و إعلامي و إداري بالمتملق و المنافق مما ألجأ بعض المنتسبين الشرفاء لهذه القطاعات إلي شيئ من عدم الانضباط و الخشونة المعاملاتية و الصدامية مع كبرائهم في العمل و لسان حالهم أن " غضب كبراء العمل أهون من لعنة الرأي العام".
و في اعتقادي أن القطيعة مع ثقافة الشكر الكَذُوب و المديح الهابط المنافي للذوق العام و الاستعاضة عنها بثقافة النقد الناعم و الشكر الصادق السائغ للرأي العام تتطلب من الباحثين إنجاز دراسة رصينة لتشخيص أسباب الانتشار الواسع و الراسخ لثقافة المديح الهابط و اقتراح التصحيحات المناسبة حتي نُطَهٍرَ فضاءاتنا السياسية و الإدارية و الإعلامية من هذا الوباء المُدَمٍرِ للأخلاق و قديما قيل إن أُفُولَ الأمم و الدول
لاحق علي ذهاب الأخلاق.