تتوجه فرنسا لتعديل استراتيجيتها الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، نحو مزيد من الانخراط في الحرب ضد الجماعات المسلحة بالمنطقة، بعد تلقيها وعودا من الإدارة الأمريكية الجديدة لتعزيز التعاون الأطلسي بين البلدين.
وظهر التوجه الفرنسي الجديد في الساحل جليا من خلال القرارات التي خرجت بها قمة مجموعة الخمسة ساحل، المنعقدة بالعاصمة التشادية نجامينا، بخلاف ما أعلنت عنه باريس نهاية 2020، قبل مغادرة الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض.
وأبرز تلك القرارات تأجيل الانسحاب الفرنسي من المنطقة، ورفض الحوار مع المجموعات المسلحة "القبلية"، وإرسال 1200 جندي تشادي إلى منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بعد أن تأجل تنفيذ هذا القرار لأسباب مالية وتطورات أمنية في حوض بحيرة تشاد.
** رحيل ترامب خدم باريس
في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، أعلن رئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال فرانسوا لوكوانتر، من مالي أن بلاده تفكر "بجدية" في سحب قواتها من منطقة الساحل الإفريقي.
غير أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال كلمته التي ألقاها عبر الفيديو في قمة مجموعة الخمسة ساحل في 16 فبراير/شباط الجاري، قال إن "التسرع في الانسحاب الفرنسي (من الساحل) سيكون خطأ".
ويشكل هذا التصريح أول تراجع رسمي عن أحاديث سابقة أدلى بها مسؤولون فرنسيون رجحوا سحب قواتهم تدريجيا من منطقة الساحل عقب عدة انتكاسات واجهتها عملية "برخان" العسكرية، إثر مقتل 50 جنديا فرنسيا منذ 2013، وسيطرة جماعات مسلحة على مساحات واسعة في المنطقة.
ويأتي تغير الاستراتيجية الفرنسية في الساحل، عقب إبداء إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، استعدادها لتعزيز تعاونها مع باريس في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو).
فخلال المكالمة الهاتفية الأولى من نوعها بين ماكرون، ونائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، أعربت الأخيرة عن التزام واشنطن "بتنشيط التحالف عبر الأطلسي"، وناقشا "العديد من التحديات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، والحاجة إلى معالجتها معا".
ومع رحيل ترامب، تأمل فرنسا أن تدعم إدارة بايدن، وضع "القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل"، تحت البند السابع، على مستوى مجلس الأمن الدولي، ما يتيح لها تمويلا دائما، بعد أن كاد مشكل التمويل يؤدي إلى تفكك مجموعة الخمسة ساحل، التي تصم كلا من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
وقال الرئيس الفرنسي، خلال القمة، إن دول الساحل تسعى لوضع قوتها العسكرية المشتركة تحت البند السابع للأمم المتحدة حتى تضمن "التمويل الدائم".
ويوضح ماكرون، أن هذا النقاش مستمر منذ عامين "وكان صعبا على المستوى الدبلوماسي، لأن الإدارة الأمريكية السابقة كانت تعارضه وأوقفته".
وتسعى باريس لحث واشنطن على الانخراط أكثر في القتال بالساحل، بعد أن عمل الرئيس الأمريكي السابق على تقليص قواته في إفريقيا.
وتراجع الاقتصاد الفرنسي بسبب وباء كورونا، واستنزاف حرب الساحل لقدراتها العسكرية والمالية، يدفع باريس للبحث عن "تدويل" النزاع من خلال إشراك أكبر عدد من الدول في القتال ضمن قوة "تاكوبا" التي تضم العشرات من القوات الخاصة الأوروبية، وتدريب الجيوش المحلية لتكون قادرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية، بهدف الانسحاب تدريجيا من مستنقع الساحل.
ويساهم الجيش الأمريكي بشكل فعال في الجانب الاستخباراتي بالساحل، وتأمل باريس توسيع واشنطن دعمها أكثر ليشمل الجانب المالي والميداني، ورفع عدد أفراد قوة "تاكوبا" لتصل إلى 2000 عنصر، بينهم 500 من فرنسا.
** تشاد تتراجع وتقرر العودة
"يموت جنودنا من أجل بحيرة تشاد والساحل. اعتباراً من اليوم لن يشارك أي جندي تشادي في عملية عسكرية خارج البلاد"، هذا ما قاله بالحرف الرئيس التشادي إدريس ديبي، في أبريل/نيسان الماضي، عقب مقتل العشرات من رجاله في مواجهات مع تنظيم "بوكو حرام" على ضفاف بحيرة تشاد.
لكن ديبي، في القمة الأخيرة لدول الساحل التي احتضنتها بلاده، أعلن إرسال 1200 جندي إلى منطقة الحدود التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي في الصحراء الكبرى.
ويمثل مشاركة تشاد ضمن القوة المشتركة لمجموعة الساحل أهمية خاصة، بالنظر إلى نجاح الجيش التشادي في طرد بوكو حرام من أراضيه التي سيطرت عليها، رغم الثمن الباهظ، الذي كلفه سقوط ما لا يقل عن 144 جندي بمنطقة بوما (غرب) ما بين مارس/ آذار وأبريل 2020.
واعتبرت تشاد أنها تُركت وحيدة في مواجهة ضربات غير مسبوقة لجماعات مسلحة غزت مناطقها الغربية، بينما تشترك في تحالف مع مجموعة الخمسة ساحل، وأيضا مع تحالف آخر لدول حوض بحيرة تشاد (نيجيريا، الكاميرون، البنين بالإضافة إلى النيجر وتشاد).
لكن ليس هذا السبب الوحيد الذي دفع نجامينا في التردد لإرسال قواتها لمنطقة الحدود عندما وعدت بذلك في قمة "بو" بفرنسا التي عقدت في يناير/كانون الثاني 2020، إذ أنها لم تتلق التمويل المطلوب من شركائها لدفع جزء من أجور جنودها الذين سترسلهم إلى المنطقة.
ولكن وسائل إعلام فرنسية، لفتت إلى أن باريس اعترفت بأن "هناك قضايا مالية تمت تسويتها"، ما يفسر سر تراجع نجامينا عن قرارها عدم إرسال جنودها إلى الخارج.
كما أن الاتحاد الإفريقي صادق على دعم القوة العسكرية المشتركة بـ20 مليون يورو، لشراء معدات عسكرية من الصين، ناهيك عن تعهدات سابقة خلال مؤتمر للمانحين ببروكسل في 2018 بدفع 400 مليون يورو، منها 100 مليون يورو وعدت بها السعودية، ولم تف بها، بحسب وسائل إعلام فرنسية.
** لا حوار مع آغ غالي ولا مع كوفا
لمح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بإمكانية التحاور مع بعض المجموعات المتطرفة بالساحل، على غرار ما حدث بين واشنطن وطالبان في أفغانستان، وعبرت الجزائر عن تشجيعها لخطوة من هذا القبيل، لكن الرئيس الفرنسي رفض أي حوار مع هذه الأطراف.
والأطراف المقصودة بـ"الحوار"، ليست سوى إياد آغ غالي، زعيم تنظيم "أنصار الدين" من قبائل الطوارق بشمال مالي، ويقود حاليا تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المقربة من تنظيم القاعدة، وأيضا أمادو كوفا، زعيم جماعة تحرير ماسينا، من قبيلة الفولاني وسط مالي، وهي جزء من هذا التحالف.
وتحاول عدة أطراف دولية عزل آغ غالي وكوفا، عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وكتيبة المرابطين، وفتح باب للحوار والمصالحة.
لكن الرئيس الفرنسي، الذي يشعر بأن موازين القوى بدأت تميل لصالحه بعد رحيل ترامب، أنهى حالة الجدل في هذا الشأن، قائلا "خلال الأسابيع الأخيرة عززنا التوافق مع محاورينا في دول الساحل، حول اعتبار أن إياد أغ غالي وأمادو كوفا عدوان، ولا يمكن أن يكونا بأي حال من الأحوال محاوران".
ويوضح موقع "صحراء ميديا" الموريتاني المتخصص في شؤون الساحل، أن الرفض الفرنسي جاء بعد أن قررت بوركينا فاسو الحوار مع تنظيمات فرعية في منطقة "دجيبو" في الشمال، كما سبق وأن أعلنت مالي استعدادها للدخول في حوار مع بعض قادة القاعدة، وخاصة أغ غالي وكوفا.
وبينما تشترط باريس لقبول الحوار مع آغ غالي وكوفا، التخلي عن السلاح والتعهد بمحاربة بقية التنظيمات، تطالب جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بانسحاب القوات الفرنسية من المنطقة للجلوس على طاولة الحوار.
ويرفع كل طرف سقف شروطه قبل الإقدام على أي خطوة نحو الحوار، إلا أن فرنسا وحلفاؤها سيعملون في المرحلة المقبلة على تحييد أو على الأقل تجميد نشاط جماعتي آغ غالي وكوفا، والتركيز على منطقة الحدود الثلاثة لتطهيرها بالكامل من تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" الذي يشكل أنشط فرع للتنظيم الإرهابي بعد القضاء على مناطق سيطرته في العراق وسوريا وليبيا.
الأناضول