“عليكم أن تسامحوني إذا بدوت مشتتًا قليلاً، إنني أراقب النتائج القادمة من ولاية ويسكونسن”. هذا ما كان يقوله السفير السعودي في لندن قبل أسبوع، عندما لم يكن أحداً ليعلم لصالح من سُتحسم نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
اليوم، بحكم المحسوم بات فوز المرشح عن الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن. لتأتي النتيجة كعامل إرباك لحسابات خليجية مضت بعيداً في الرهان على ولاية ثانية لدونالد ترامب.
هو المحو السعودي الإماراتي، وضمناً تأتي البحرين. كل ما أملته الأنظمة الثلاث من ولاية أخرى لترامب، تحقق بها مكاسب أكبر، تبخر. تماماً كما تبخر الأموال التي أُغدقت على ترامب، وتكفلت لاحقاً بتمويل حملته الانتخابية، هذا ما حصدته الأنظمة الثلاثة في زمن الانتكاسات الاقتصادية الضاربة عالمياً. وعلى العكس أتت الحسابات، برياح لم تشتهيها سفنهم.
كل ما بوسع الرياض وأبوظبي تقديمه لضمان عودة ترامب قُدّم على مستوى المنطقة. من تبني صفقة القرن عربياً، وتوفير منصة اطلاق لها من المنامة، إلى لف الحبال على رقاب الفلسطينيين لاخضاعهم بالقبول بها بجزرة الاستثمارات وعصا قطع المساعدات .. ولكن عبثاً، وصولاً الى نفض الثوابت العربية والاسلامية عن جلابيبهم، بخروجهم كقادة لركب التطبيع في عهد ترامب. هذا ما فعلته الإمارات وبعدها البحرين، كتعويض عن حضور مباشر للسعودية. والمملكة -المحرجة من احتضانها للحرمين بما يفرضانه من اعتبارات- سخرت صحفها ومنصاتها الاعلامية كما كُتابها لتجميل قُبح التطبيع، وسمحت لشخصيات وأكاديميين بزيارة الأراضي المحتلة في رحلات ترويج للتطبيع آو للمشاركة على وسائل اعلام اسرائيلية، بالتوازي مع المضي في مسار شيطنة الفلسطينيين، قضية وشعباً ومقاومة.. وضرب ثقافة النضال بأُمها وأبيها، تحت عنوان مصالح “السعودية العظمى” التي قُدمت كحلم لن يحققه الا محمد بن سلمان، كأول ملوك الجيل الثالث من آل سعود. كل ما سبق قُدم كأوراق دفع في حملة ترامب الانتخابية، كمنجزات تاريخية للرجل. وماذا أتت النتيجة، خيبة وارباك، انعكسا في تغطية فضائيات الدولتين للاستحقاق الانتخابي الأميركي، وتعاطي “نخبهم” الصحافية مع الوقائع لحظة بلحظة… وصولاً إلى مباركة سعودية لبايدن أتت متأخرة، بالتوازي مع معلومات نشرتها الصحافة الأميركية عن ضخ مالي سعودي إماراتي لتمويل شكاوى ترامب القضائية. هكذا تمظهر عدم التوازن السياسي الذي صفع السعودية وحلفاءها.
وللإرباك والقلق ما يفسرهما. فبعيداً عن الرهانات الخاسرة في الحدث الانتخابي أميركياً، معارك مفتوحة على مستوى الاقليم انخرط فيها المحور السعودي-الإماراتي، وتجندت له البحرين تطبيلاً.. طيلة سنوات حكم ترامب، ليجد اليوم نفسه غارقاً بوحلها، من الحرب على اليمن الخاسرة بكل مقاييسها ميدانياً وسياسياً، إلى الصراع المفتوح مع الجمهورية الاسلامية في ايران، مروراً بالحروب بالوكالة مع تركيا وتيار الاخوان المسلمين، وصولاً للمعركة المفتوحة ضمن الساحة الخليجية نفسها، باستعداء قطر، وضرب منظومة العمل الخليجي بشكل خلق اهتزازات على العلاقات مع سلطنة عمان والكويت أيضاً، واردت كأزمات في الداخل استعرت خلافاً اما لم يخرج الى الضوء اماراتياً، أوانكشف في تمايزات بين تيارات الحكم بحرينياً، وهو قابل للانفجار في أي لحظة سعودياً،. وفتيل التفجير سعودياً، بيد الأميركيين، والحقيقة هذه هي المثيرة للقلق، مع بروز تساؤلات عن الأسلوب والنهج الذي ستعتمده إدارة بايدن على قاعدة تنظيف مخلفات ترامب، طالما أن أي بديل سيكون على استعداد لتقديم كل ما يرضي الإدارة الجديدة، لضمان استمرارية العرش. والسيناريو هذا يشكل كابوساً أكثر من مزعج لولي العهد السعودي الذي لا يريد أن يرى الا العرش.، هو الوضع الخليجي المربك، الذي استند إلى جنون ترامب على مدى سنوات حكمه، ليمضي بسياسات أكثر جنوناً مستعدياً الجميع اقليمياً، ماضياً في تخطي خطوط حمر لم يعهدها العمل السياسي، سواء في اختطاف رئيس حكومة بلد آخر واجباره على تلاوة بيان استقالة كما فعل ولي العهد السعودي مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، أو بتنفيذ أفظع جريمة قتل سياسية شهدها العالم وعلى أراضي بلد خصم بقتل الصحافي جمال خاشقجي. وهو الجنون الذي تمظهر بانخراط أبوظبي المباشر في حروب الخارج كسياسة حديثة العهد بالنسبة للإمارات، وبحرينياً كان الضوء الأخضر المفتوح للفتك بالمعارضين بارزاً، باغتيال العمل السياسي والصحافي بشكل كامل وبدل الانفاق على مؤسسات العلاقات العامة لتحسين صورة الحكم كما في عهد الادارات الاميركية السابقة لترامب فُتحت يد السلطة على بطش بلا رحمة.
والمخاوف السعودية جدية إزاء سياسات إدارة بايدن تجاه محمد بن سلمان كمشروع للحكم، وهي مخاوف تربك أبو ظبي التي تبنت بن سلمان مبكراً، حتى بات يوصف الرجل بأنه صنيعة محمد بن زايد، ليُنظر إلى رحيله عن المشهد السياسي كضربة في قلب أبوظبي، تعزز من نفوذ خصومها على المستوى الخليجي أولاً. ولأن القلق له ما يبرره، فثمة تحولات بدأت بفرض نفسها، على قاعدة احتواء ما أمكن. لعل بداياتها تمظهر اعادة تنشيط ما يسمى بالوساطة الكويتية لحل الأزمة الخليجية، واعلان السفير السعودي في لندن قبل أيام عن أن بلاده تدرس امكانية العفو عن معتقلات في سجونها السياسية. والخطوتان تقران بتبدل الظرف السياسي الذي كانت تستند له المملكة في المضي بقراراتها بضوء أخضر وحماية دولية أمنتها إدارة ترامب. مع إعادة تعويم لعنوان الإرهاب ومكافحته من خلال جريمة جدة التي طرحت حولها العديد من علامات الاستفهام في توقيتها وظرفها السياسي، بالتقاطع مع بيان كبار علماء المملكة المستعدي للإخوان المسلمين… أي سياسات ستجاري بها السعودية المتغيرات الأميركية؟ وأي جدوى قد تتحقق بعد الفضائح والفشل الذين راكمهما بن سلمان… وهل سيعود اسم محمد بن نايف للمشهد السياسي السعودي كرجل أميركا الأقوى.. كما كان يُطلق على الرجل؟ أسئلة كبرى بحجم الاستحقاقات التي تقف المملكة على عتبتها.
إسراء عامر الفاس كاتبة لبنانية