في إطار تطورات المُخطط الإستراتيجي الهجومي علي الإسلام والمسلمين بالتبعية من كل الإتجاهات من داخل العالمين الإسلامي والعربي ومن خارجهما , وهو المُخطط الذي بدأ مع موجات الإستعمار التقليدي القديم لهذين العالمين وكانت آخر حلقاته إعتراف إدارة الرئيس Trumpفي 6 ديسمبر 2017 رسميًّا بالقدس عاصمة مُوحدة للكيان الصهيوني مع ما يعنيه ذلك لاحقاً من فرض السيطرة الصهيونية علي المسجد الأقصي , ثم أعلان الخارجية الأمريكية في 23 فبراير 2018 أن السفارة الأمريكية بالقدس ستفتح في مايو 2018 وهو ما تم رسميًا في 14 مايو 2018, وفي سياق نفس هذا المُخطط الذي يُنفذ بوضوح وبدون الحاجة لفرض التعتيم أو السرية عليه , ألقي الرئيس الفرنسي Macronفي 2 أكتوبر 2020 خطاباً مُثيراً للإشمئزاز بضواحي باريس كان بمثابة أعلان حرب مفتوحة علي الإسلام , إذ تضمن إشارات لا تخرج عن كونها كذلك من أخطرها قوله :
– ” أن الدين الإسلامي يمر بأزمة في كل مكان في العالم اليوم ولا نراها في بلادنا فقط , وهي أزمة عميقة مرتبطة بالتوترات بين الأصولية والمشاريع الدينية والسياسية والتي تؤدي إلى تصلب شديد للغاية “.
– ننوي بناء ” إسلام يكون في سلام مع الجمهورية ” و” تحرير إسلام فرنسا من التأثيرات الأجنبية ” , من خلال وضع حد لنظام تدريب الأئمة في الخارج بتدريب الأئمة في فرنسا وليس خارجها وتعزيز الرقابة على تمويل الأئمة.
– هناك ضرورة لتحديد واقع مشاكلنا بدون محرمات , وفي هذا الإطار فستُتخذ إجراءات لتعزيز العلمانية la laïcité ومواجهة “الإنفصالية الإسلامية” بالبلاد التي هي أيديولوجية تؤكد علي أن قوانينها أعلى من قوانين الجمهورية ” .
– تؤدي الانفصالية الإسلامية إلى “انحرافات متكررة عن قيم الجمهورية” , واصفاً هذه “الإنفصالية” بأنها أيدولوجية منظمة ومنهجية تسعى إلى “إنشاء نظام موازٍ وتؤدي إلى رفض حرية التعبير وحرية الضمير والحق في إزدراء الأديان أو Blasphemy , مُنوهاً بأن هذه “الإنفصالية” ليست مرتبطًة بالدين الإسلامي فقط , لكنه لم يشأ أن يُحدد أو يسم دين أو إيدولوجية أخري بالرغم من إمكانية ذلك .
– أن الحكومة الفرنسية ستشجع الجمعيات الدينية الإسلامية التي تشكلت غالباً بموجب نظام جمعيات القانون لعام 1901علي التحول إلى نظام قانون 1905 بشأن فصل الكنائس عن الدولة (أساس العلمانية الفرنسية) وهو قانون أقل مرونة من حيث الالتزامات المحاسبية , كما ستتم مراقبة الجمعيات عن كثب وإخضاعها للمساءلة في مدي أربع سنوات , وتذكر مصادر حكومية فرنسية أن ذلك يأتي في إطار إستكمال قانون 1905 بشأن فصل الدين عن الدولة .
من المُتوقع تقديم قانون “الفصل” للجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) لمناقشته في مُستهل 2021, وتقول Marlène Schiappa الوزيرة المسؤولة عن المواطنة أن السبب وراء سن هذا القانون أنه سيسمح بأن نكون أكثر حزماً ضد “الانفصالية والطوائف” , لكن كثير من المراقبين يربط بين هذا الموقف الفرنسي العنيف تجاه الإسلام وبين الإستعداد للإنتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل / مايو2022 لأنه سيُكسب هذا الرئيس تأييد الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ومن وراءها الفاتيكان بالطبع وكذلك تأييد اليمين الفرنسي ومعه هؤلاء الذين يتخذون موقفاً مُعارضاً للهجرة إلي فرنسا خاصة الآتية من المغرب العربي والدول الأفريقية المُسلمة كمالي والسنغال والنيجر وموريتانيا وغيرهم , وبالرغم من إدراك الرئيس Macron وحزبه أن لمواجهته ضد العالم الإسلامي صلة بالعلاقات الفرنسية مع هذه الكتلة التي لفرنسا مصالح كثيفة معها , إلا أنه من الواضح أن فرنسا تعلم – بقدر ما تسير تقدير – ما يجري للإسلام بداخل العالم الإسلامي , فالإسلام وبإختصار قبل أن يكون في حالة مواجهة مع الغرب فهو أيضاً في حالة مواجهة من بعض حكام العالم الإسلامي الذين ينفذون تعليمات مصدرها خارجي بهدف محو مصادر وقواعد الهوية الإسلامية للشعوب .
تقدير للدافع من وراء تصريحات الرئيس الفرنسي المُضادة للإسلام :
منذ بداية صعود حزب العدالة والتنمية التركي عام 2002 وتركيا بقيادته تحاول إستعادة هويتها الإسلامية ودورها كقوة دولية لها وزنها المُعتبر كما كانت إبان العهد العثماني وليس في ذلك إثم فهو سلوك تتحراه أو تحاول أن تتحراه كل الدول خاصة إن ملكت إرادتها وأدواتها , وهو الأمر الذي تحاول التصدي له لوقفه القوي الدولية التقليدية وهم تحديداً الأعضاء الخمس الدائمين بمجلس الأمن الدولي وفي مقدمتهم فرنسا , إذ يحاول كل منهم – وفقاً لمدي صلة الدور التركي بمصالحه – وقف تقدم الدور والنفوذ التركي دولياً , ولا شك أن تركيا حققت مؤخراً تقدما نسبياً في عملية إستعادة دورها الدولي , وهو الأمر الذي تري فرنسا فيه خطراً علي دورها وهذا هو أحد الدوافع الرئيسية للموقف الفرنسي من الإسلام الذي يعد الدافع الرئيسي للحركة الدولية التركية والذي يكسبها مساحات مهمة تضيف للنفوذ التركي الدولي , وفي هذا الإطار يأتي الموقف التركي الداعم لآذربيجان في نزاعها مع أرمينيا الجاري حالياً من أجل السيطرة علي إقليم ناجورني كاراباخ , هذا الدعم الذي ترجمته المعارك حتي الآن لصالح تقدم القوات الآذرية علي بعض جبهات القتال ضد القوات الأرمينية بالإقليم , وتعي فرنسا جيداً أن إستعادة آذربيجان لناجورني كاراباخ سيعني بالنسبة لتركيا وصولاً إستراتيجياً لشواطئ بحر قزوين يُضيف إلي إطلالتها علي البحر الأسود فهي بذلك ستكون في حالة تماس غير مباشر من جهة بحر قزوين لكنه فعال مع خصمها التاريخي : روسيا ويعني كذلك توفر مساحة متكاملة برياً لممارسة النفوذ التركي بفضل وحدة اللغة التركية في العالم التركي أو ما يُسمي Turkish Sphere وكنتيجة سيصبح النفوذ التركي يُمارس عملياً – إذا ما أنتهت الحرب في ناجورني كاراباخ لصالح آذربيجان وتركيا – ويتحقق ما قاله الرئيس أردوغان عندما من ” أن دعم أنقرة لأذربيجان جزء من سعي تركيا للحصول على مكانتها التي تستحقها في النظام العالمي” , وذلك بحسب ما نقلته وكالة Reuters في 7 أكتوبر 2020 , وهذا الصعود الإستراتيجي التركي في أهم دائرة نفوذ تركية تُعد أساسية , يمثل تحدياً لفرنسا إذ سيقوي ذلك ساعد الأتراك خاصة وأن من بين أهم نتائج الوصول والحركة التركية الحرة في العالم التركي أو ما يُسمي Turkish Sphere أن صفحات ملف إستراتيجية الطاقة التركي سيُضاف إليه صفحات تتضمن تفاصيل تأتي مُعززة لهذه الإستراتيجة تًضاف إلي الإكتشافات المهمة للغاز الطبيعي في المنطقة الإقتصادية التركية بالبحر الأسود والتي أعلنت عنها تركيا مُؤخراً .
تعلم فرنسا جيداً أن المكون الإسلامي في الدور الجيوسياسي التركي أحد المراجل الأساسية في تنفيذ هذا الدور مُضاف إليه (1) سياسة خارجية تركية مُتراتبة ومخططة ومرنة نسبياً وخاضعة للمراجعة وبالتالي التعديل لتحقيق كفء للنتائج , و(2) جهاز مخابرات قوي ومنتشر يعمل عن كثب ولديه شبكة تعاون خارجي لا بأس بها تغذي واضعي السياسة الخارجية بما يلزم في حينه .
في ضوء ما تقدم فإن فعالية الدور التركي في حسم أو إقتراب حسم آذربيجان لنزاعها مع أرمينيا علي حيازة إقليم ناجورني كاراباخ (الذي يعد وفقاً للقانون الدولي إقليم آذري إستولت عليه أرمينيا بقوة السلاح عام 1994) هو الدافع الرئيسي لتصريحات الرئيس الفرنسي Macron السلبية ضد الإسلام سواء , وهذا الدافع يفسره توقيت التصريح و محتواه , وبطبيعة الحال يمكن إضافة تفسيرات أخري تبرر ثقل وعدم إنضباط الرئيس الفرنسي في لغة الخطاب مما سيمثل ” أزمة تفاهم ” مع العالم الإسلامي شعوبا وليس حكاماً , إذ أن معظم من يتولي أمر المسلمين لا قيمة لهم ولا خشية منهم فهم أصفار ولا يمثلون شيئاً بالنسبة للقوي الدولية الكبري , أما بالنسبة للحالة التركية ففرنسا تعي تداعيات إستراتيجية التمدد التركي سواء في العالم التركي أو في العالم وأفريقيا بوجه خاص , لذلك أتت حملة الرئيس الفرنسي المُضادة للإسلام عقب إندلاع القتال بين آذربيجان وأرمينيا في إقليم ناجورني كاراباخ , وفي إطار ما تقدم بيانه يأتي إعلان تركيا الصريح دعم آذربيجان بكل وسائل الدعم سبباً في إختلال توازنات السياسة الفرنسية , كما أن الولوج التركي للعالم التركي أو Turkish Sphere في القوقاز سيقلق الروس والفرنسيين ومن ثم فسيفتح هذا المرور التركي من جديد ملف التنسيق الفرنسي / الروسي بعد أن أغلق أو كاد فيما يتعلق بالوضع الليبي , ويبدأ تنسيق روسي / فرنسي آخر في حالة ناجورني كاراباخ , إذ أن هذا الولوج التركي تشخصه السياسة الفرنسية علي أنه “أزمة جيوسياسية” تُضاف إلي أزمات قائمة ومُرتقبة تواجه الإستراتيجية الفرنسية ولا يسلط الإعلام الفرنسي الضوء عليها حفاظاً علي أمن فرنسا القومي مثل أزمة سياسة فرنسا/ أفريقيا أو Françafrique التي تعتبر بإمتياز السبب الرئيسي لعدم الإستقرار السياسي والإقتصادي في دول الفرانكفون (مستعمرات فرنسا السابقة) ومطالبة دول الفرانكفون المُرتبطة نقدياً بفرنسا فك هذه الرابطة أو علي الأقل تعديل العلاقة السعرية ما بين الفرنك الأفريقي F CFA واليورو وهو ما يقض مضجع فرنسا إذ سيعني ذلك خسائر مُستقبلية للإقتصاد الفرنسي المُتعب , ويُضاف إلي جانب هذا الإختراق التركي لأفريقيا إذ تمددت تركيا بالقارة منذ أن بدأت عام 2007 في فتح سفارات لها بعدة دول بها وفتحت أسواق مهمة في كثير من هذه الدول بالإضافة إلي إقامة تعاون عسكري وقواعد عسكرية لها في ليبيا والصومال وعدم ممانعة جيبوتي , والمواقف الفرنسية المُقاومة لتحركات تركيا من أجل الطاقة وشؤون أخري في شرق المتوسط وإنفرادها مع روسيا بالملف الليبي خاصة بعد تثبيت الأوضاع القتالية بليبيا عند مدينة سرت أدي ذلك في حد ذاته إلي إحراز تركيا لمكسب مهم إذ قلص مساحة الحركة أمام اللواء حفتر وأتاح تجربة تفاوضية مع روسيا يمكن أن تتكرر في ملف آخر كقبرص مثلاً , وأخيراً فتركيا بموقفها الواضح بدعم آذربيجان تكون قد تجاوزت تخرصات فرنسا التي لطالما رددتها بإدعاء مسؤلية تركيا “حتي الآن ” عن التطهير العرقي لأرمن تركيا , لأن ملف النزاع الآذري / الأرميني من الكبر والخطورة بحيث إبتلع التفصيلات الصغيرة الهامشية كحدث التطهير العرقي لأرمن تركيا الخلافي .
ملاحظات تجاه حملة الرئيس الفرنسي Macron ضد الإسلام والمسلمين بفرنسا وتداعيات ذلك خارجياً :
1- في الواقع لم يكن التهجم علي الإسلام من قبل هذا الرئيس المُفتقد إلي الثقافة هو ومن يُعد له خطاباته التي لم تعد تنطل علي أحد في العالم جديداً في بابه , فقد دأب أحبار الفاتيكان علي إختلافهم علي توجيه الهجوم الصريح والمُبطن ضد الإسلام بإعتباره يُشكل التحدي الأعظم للكنائس المسيحية علي إختلاف مذاهبها , الأمر الذي دعا إمام الأزهر الشريف عام 2011 إلي إتخاذ قرار بقطع ما يُسمي بالحوار الإسلامي المسيحي مع الفاتيكان إلي أن أعلن من الفاتيكان في 21 أكتوبر 2016عن إستئنافه , وتأكيداً لإنعدام النية النقية من الجانب المسيحي لإجراء حوار نظيف , يُذكر أنه وبالرغم من إعلان الفاتيكان عن إستئنافه لهذا الحوار فإن أحد منتسبي الفاتيكان وهو الأب Henri Boulad الرئيس السابق لكلية الجزويت بالقاهرة إعتلي منصة التهجم علي الإسلام كما يفعل الرئيس الفرنسي الآن إذ صرح مُحذراً في مقابلة مع صحيفة L’Osservatore Romano في أبريل 2017 ” بأن العقبة الكؤود في الإسلام هي في كونه دين السيف وأن هناك تناقض واضح بين القرآن الكريم في الآيات التي “كتبها ” (محمد صلي الله عليه وآله وسلم ) في مكة(؟) وتلك التي ” كتبها (صلي الله عليه وآله وسلم ) عندما إنتقل إلي المدينة (؟) فالأولي كانت سلمية أما الثانية والتي تشكل معظم القرآن الكريم فتعد دعوة إلي الحرب والنضال ضد المسيحيين ( ؟) , لكن هذا الأب الإنتقائي النزعة لم يشر إلي الحروب الصليبية ولا للإستعمار الغربي لبلادنا وبلاد غيرنا , وأضاف خبثاً ومكراً قوله ” أنه بينما تجد معظم المسلمين منفتحين جداً وعطوفين ومُعتدلين , فإنك تجد ” الإيدولوجية” الدينية التي تدعو إليها المساجد عبارة عن ” تحريض مُستمر”, وكأن هذا الأب يفسخ العلاقة بين المسلمين وإسلامهم وبين المسلم ومسجده, كذلك فقد أعتبر البعض قرار إيقاف هذا الحوار العقيم مُتأخراً بعد نشر رسوم مُسيئة للإسلام ولرسوله الكريم (صل الله تعالي عليه وآله وسلم ) عام 2007بمجلة فرنسية ساخرة تُدعي Charlie Hebdo التي كررت النشر بذريعة حرية التعبير , إضافة إلي إستفزازات إعلامية وسياسية مُنتظمة ومُخططة سواء من بعض حكومات الدول الغربية التي تحايلت بالتغطية علي جريمة الرسوم المسيئة والأفعال الأخري الإستفزازية بالإحتماء بذريعة حرية التعبير , وكان من بين هذه الإستفزازات أن بابا الفاتيكان المُتقاعد السابق Benedict XVI دأب علي تكرار التهجم علي الإسلام والمسلمين , فذات مرة قرن في خطبة وعظية له في Regensburg بولاية Bavaria الألمانية عام 2006 الإسلام بالإرهاب , وواصل هجومه المُتكررعلي الإسلام عقب تفجير كنيسة القديسين بالأسكندرية نهاية ديسمبر 2010 عندما دعا إلي حماية أفضل للأقليات المسيحية في مصر التي رأت حكومتها في ذلك تدخلاً في الشأن الداخلي المصري مما حملها علي إستدعاء سفيرها لدي الفاتيكان وكان ذلك كله في مناخ إعلامي أوروبي متحد ومُنكر لمشاعر المسلمين الحانقة بسبب الرسوم المُسيئة للإسلام ولرسوله الكريم (محمد صل الله عليه وسلم ) , وهو موقف حاول لاحقاً البابا Francis الخروج منه ومع ذلك لم تمنعه محاولته تلك من وصف ما يحدث لمسيحيي الشرق الأوسط بأنه “إبادة جماعية ” أي Genocide وخفف موقفه هذا بقوله أنه من الخطأ جعل الإسلام رديفاً للعنف , متغافلاً عن الإبادات الجماعية الأخري – وهي حقيقية – لمسلمي روهينجا في بورما وإيجور في الصين وغيرهما والتي تقترفها نظم بالعالم الثالث تدعمها الديموقراطيات الغربية التي آثرت تبني نهج “الديموقراطية المتجولة ” أو Roaming Democracy أي غير المقيمة في عالمنا العربي والإسلامي .
2- المُثير للإستغراب أن الغرب بعد كل هذه الإساءات المُتعمدة يسأل : لماذا يكرهنا المسلمين ؟ والإجابة : وهل الإساءة إلي ما يتعلق بجوهر الهوية وهو الدين لا يُعد سبباً وجيهاً وكافياً للكراهية ؟ وإذا ما تكررت الإساءة للدين ومعها الإساءة للعرق وأُضيف إليهما الإٍستغلال والنهب المُنظم لموارد وثروات الشعوب بمساعدة حكام خبرتهم ومؤهلهم الوحيد هو الخيانة , فهل لا يدعو ذلك فريق من هذا الشعب أو غيره لإشهار السلاح في وجه هؤلاء الذين يسيئون لدينهم وأعراقهم والدفاع عن مواردهم ؟ هؤلاء المدافعون هم من أطلقوا عليهم صفة “الإرهابيين” لكي يسهل التحريض ضدهم وإدانة دفاعهم عن أنفسهم وشعوبهم , ولذلك لن تجد هذا الرئيس الغبي قليل الأدب – كما وصفه الرئيس التركي أردوغان- وزمرته التنفيذية مُكترثين بردود الفعل السلبية علي المسلمين عامة والأفارقة بمنطقتي الساحل والصحراء الذين يكنون بالفعل قدراً مُضطرداً من الكراهية لفرنسا مما دفع بالرئيس Macron خلال زيارته للنيجر في 22 ديسمبر 2019 إلي دعوة القادة الأفارقة – الذين “إستدعتهم ” الحكومة الفرنسية للنيجر للمشاركة في مراسم تأبين 71 جندي نيجري قُتلوا في عملية عسكرية بقاعدة عسكرية بالنيجر – لإتخاذ موقف أكثر صرامة من المشاعر المُضادة للفرنسيين من قبل بعض الحركات التي تجنب تسميتها قائلاً ما نصه ” أنه مالم تكن هناك إدانة سياسية واضحة للمشاعر المُضادة للفرنسيين , فلن يكون بإمكاني الموافقة علي إرسال جنودنا لأراضي هذه البلاد”.
3- يستلفت النظر أن الرئيس الفرنسي وصف – عمداً أو سهواً – الإسلام بأنه إيدولوجية وهو خطاً فادح إذ أنه يمكن للمرء إنتقاد أو إعادة هيكلة الإيدولوجية لكن من المستحيل فعل ذلك إن كان الأمر مُتعلقاً بدين , ولإن الإسلام دين وليس إيدولوجية , إذن فليس هناك حيز للمقارنة أو المفاضلة بين الدين الإسلامي وقيم وقوانين “الجمهورية” فلا مقارنة بين طبيعتين مختلفتين , كما أن إستخدام الرئيس Macron لكلمة إيدولوجية في تقديري لم يأت إعتباطاً فهو بذلك يخرج الإسلام عن دائرة كونه دين ليكون كيان وضعي بشري يمكن إستهدافه وإعادة هيكلته كما قال وبالتالي أدخلنا السيد Macron في معركة المُصطلحات تماماً كما يروجون لصطلحات لا تُحصي علي شاكلة المُتطرفون والمُتشددون ومعسكر الإعتدال في الشرق الأوسط والإرهاب والإرهابيون ألخ فكلها مصطلحات هي في جوهرها نسبية وليست حاسمة في معناها ولا مبناها فعادة ما يكون لفظ المعتدلون مطلق بالنسبة للقوي الدولية التي تمارس اللصوصية عن طريق هؤلاء المُعتدلون في أوطاننا , بينما هم في الواقع بالنسبة لمعارضيهم هم المُفرطون , كما أن المُتطرفين إصطلاح نسبي أيضاً فهم لم يُوصفوا بذلك إلا لتمسكهم بثوابت دينهم , والإرهابيون هم من يتصدون لعدوان هذه القوي , وكلها مصطلحات حمالة أوجه الإعلام وحده القادر علي الترويج لها وإشاعتها وسبب هذه القدرة المُطلقة هي أن هذا الإعلام لا أصول علمية حقيقية له حتي تكون له مقاييس ومعايير ثابتة .
4- لا أعتقد أن الحملة التي شنها الرئيس الفرنسي وسيستمر في شنها ضد الإسلام مُرتبطة بصفة مُطلقة بالإنتخابات الرئاسية التي ستُجري في فرنسا عام 2022, إلا أن الإرتباط جزئي بين الأمرين , لكن العلاقة الحقيقية إطارها أوسع كثيراً , إذ يتضمن هذا الإطار مكونات ذات علاقة بالحملة علي الإسلام وقيمه وهي مكونات مُتداخلة وذائبة في بعضها البعض تبدأ من حملة التغريب التي عمت العالم العربي منذ بدايات القرن العشرين التي أفرزت أشخاصاً مثل طه حسين وسلامة موسي وأضرابهما وأفكاراً كالليبرالية والعلمانية ألخ وكان لهذه الشخصيات والأفكار نتائج سوداء من أخطرها النكبة عام 1948ونشأة الكيان الصهيوني وهزيمتي 29 أكتوبر 1956و5 يونيو 1967والإنقلابات العسكرية وتفكيك ثم الإنتقال لمحو الهوية الإسلامية , ولفرنسا علاقة تاريخية وإسهام في حملة التغريب إذ كانت الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت علي مصر 1898- 1801 نموذجاً لذلك وقد إعتبرها فريق المُضللين في مصر حملة تنويرية فيما هي في حقيقتها حملة غرس لكل ما هو سيئ ومُضاد للعقل المسلم والعربي في آن واحد , كذلك وداخل هذا الإطار الواسع نجد الإرتباطات بين عسكريات دول العالم الإسلامي والمؤسسات العسكرية الغربية والشرقية و تنامي إعتماد عسكريات العالم الإسلامي علي الدعم والإتصال الخارجي , هناك أيضاً الإعلام الذي إتسع فضاءه لينتج فيض من المعلومات والأفكار المُوجهة والمُعلبة وهي عملية يُديرها في عالمنا الإسلامي عن بعد الغرب والشرق بحيث يمكن لفرنسا مثلاً وعن طريق الإعلام المحلي غير الإحترافي وغير المُستقل في الدول العربية أن تقدم للمشاهد والمستمع العربي كل ما قاله الرئيس الفرنسي في خطابه الهستيري ضد الإسلام علي أنه لمصلحة الإسلام وأن المتطرفون والإرهابيون هم الذين يُشككون في كلام هذا الرجل الغبي الكذوب الذي من بين آخر كذباته المختلفة قوله في كلمته التأبينية يوم 2 ديسمبر 2019 بمناسبة مصرع 13 من العسكريين الفرنسيين المُشاركين في عملية Barkhane operation العسكرية بشمال مالي بسلاح الجهاديين الماليين (والذين هم في الواقع معارضين مُسلحين للوجود الفرنسي بمالي) التي تمركزت في شمال مالي منذ 6 سنوات مضت عقب إنتهاء عملية Serval العسكرية الوحشية هناك , ما نصه : ” هؤلاء قضوا وهم يُقاتلون من أجل فرنسا , ومن أجل حماية شعب الساحل (جغرافياً 13 دولة أفريقية) ومن أجل زملاءهم في الوطن وحرية العالم بأسره “, وهو بالطبع يفترض بأن هناك تطابق بين مصالح فرنسا و مصالح دول الساحل وهو إدعاء كاذب بدليل ما قاله هو نفسه عن تفاقم كراهية هؤلاء لفرنسا , وطالما الكلام عن فرنسا فمما يُذكر في شأن دورها في حملة التغريب أشير إلي أنها تُمارسها من خلال عدة مؤسسات منها معهد العالم العربي ومنظمة الفرانكفونية الدولية وبعض الوكالات الدولية كاليونسكو والإعلام الفرنسي والبعثات التنصيرية , ومما هو جدير بالإشارة أيضاً الإرتباط والتنسيق بين الفاتيكان والكنيسة الفرنسية الكاثوليكية ذات الدور المُؤثر في أفريقيا (التي للكنائس الكاثوليكية الأفريقية بها دور سياسي مُوجه وفعال) , وهو الإرتباط الذي إكتسب زخماً بعد توقيع وإصدار الكاردينال بيا رئيس سكرتارية المجمع المسكوني وثيقة تبرئة اليهود من دم السيد المسيح عليه السلام وإصدارها في دورة المجمع الثانية في 8 نوفمبر 1963, إذ أصبحت إرتباطات وعلاقات الكنيسة الكاثوليكية ككل مع الكيان الصهيوني مؤسسة ومُضطردة والهدف المُشترك هو الإسلام والمسلمين , وعليه فالسيد Macron يُسدي خدماته لبلاده وللكنيسة الكاثوليكية وللكيان الصهيوني معاً وفي آن واحد .
5 – بينما يشير خطاب الرئيس الفرنسي إلي تشديد القبضة القانونية للعلمانية La Laïcité لحصار ومواجهة مسلمي فرنسا بتعديل أو إعادة صياغة وإضافة مكونات لقانون 1905 المُتعلق بفصل الدين أو الكنيسة عن الدولة , وهو ما لا سيكون في النهاية علي حساب مكانة ونفوذ الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية , نجد رئيساً فرنسيا آخر هو نيقولا ساركوزي قد تبني نهجاً مُعاكساً تمثل في نداءاته المُتكررة لإيجاد علمانية مُخففة تجعل الحيز والنفوذ الكنسي الكاثوليكي حراً وممُتداً , إذ أنه نادي بإيجاد علمانية إيجابية أو Laïcité Positive وكانت المرة الأولي لتوجيه هذا النداء عند زيارته لروما وفي قصر Palais du Latarn في 20 ديسيمبر 2007 وأعاده خلال زيارته للرياض في 14 يناير 2008 ثم أعاده أمام البابا بندكت لدي زيارته لفرنسا في 12 سبتمبر 2008, وخلاصة رؤية الرئيس ساركوزي عن العلمانية الإيجابية هي : ” ضمان حرية التفكير أي الإعتقاد وعدم إعتبار الأديان خطراً وإنما إعتبارها أحد الأصول” , وبالطبع فقد إصطدمت دعوة الرئيس ساركوزي عن العلمانية الإيجابية بإتجاه له وزنه بفرنسا يعتبر العلمانية أحد منجزات الثورة الفرنسية والتي نظمها ووضع أركانها قانون فصل الكنيسة عن الدولة لعام 1905 , وقد واجه هذا النداء إنتقادات من تيارات سياسية ومجتمعية من أهمها اليسار ومن أهم رموزهGrancois Bayrou والمرشح الرئاسي آنئذ Hollande والذي طالب ساركوزي – في تصريح له نُشر في 14 سبتمبر 2008 – ” بعدم الخلط ما بين معتقداته الشخصية ومسئولياته “, ولو أن نداءات الرئيس ساركوزي قد وجدت سبيلها للتطبيق قسيتطلب الأمر والحالة هذه تعديل قانون فصل الكنيسة عن الدولة لعام 1905 , تماما كما سيفعل الرئيس Macron ولكن في الإتجاه العكسي أي تعزيز العلمانية , مع العلم أن فرنسا من أكبر الدول الكاثوليكية بالعالم وتعمل السياسة الأفريقية لفرنسا بوسائل مختلفة من أهمها الكنيسة بالرغم من الإنكار الرسمي لذلك إلا أنها حقيقة ولها شواهدها خاصة في الدول الأفريقية التي يتبع سكانها المذهب الكاثوليكي مثل الكونجو الديموقراطية التي كان لكنيستها دور مُوجه في الصراع السياسي بها والذي إنتهي مُؤخراً كما شاءت هذه الكنيسة بإزاحة الرئيس كابيلا عن السلطة , ولهذه الكنيسة دور تاريخي في الصراع السياسي بالكونجو(زائير سابقاً) إذ كانت في مواجهة مستمرة مع الرئيس موبوتو الأمر الذي جعله وجعل زعماء أفارقة غيره ممن واجهتهم الكنيسة الكاثوليكية ببلادهم يدعمون ويشجعون كنائس “وطنية” مثل كنيسة Kimbamguist التي أسسها في القرن الماضي Simon kimbangu ولها أتباع في الكونجوليتين وأنجولا ونامبيا , والكنائس الأفريقية الكاثوليكية ربما هي الأكثر فعالية ونشاطاً في التعاطي مع الشأن السياسي , فلا يمكن إغفال أهمية وأثر المؤتمرات السنوية التي ينظمها الفاتيكان في حاضرته ويشارك فيها رجال المُعتقد الكاثوليكي من العالم وأفريقيا , كما لا يمكن فك الإشتباك بين العمل الإنساني علي نبله وبين الأهداف والمرامي السياسية , إلا إذا إعتقدنا أن الفاتيكان الذي له مصرف (بنك) وله سفراء يمثلونه “دولة في السماء أو من السماء” .
6- ما تضمنه خطاب الرئيس الفرنسي يلتقي مباشرة مع دعوات منحرفة إشتدت وطئتها بدول إسلامية موضوعها الوحيد هو تغيير لغة الخطاب الديني وما يتعلق به في مناهج التعليم , ومن المؤسف المُناداة بتغيير ثوابت تمثل القاسم المُشترك الأعظم لهوية الأمة وهذا الخطاب الذي ينادون بتغييره حتي لو إعتقدنا بأنه يعبر عن ضرورة مُلحة فسيقوم به آحاد القوم وأنصاف المُتعلمين ممن لا ماض ولا إسهام فقهي مشهود لهم , وهنا مكمن الخطورة أن تكلف جزار بإجراء عملية جراحية دقيقة داخل مُستشفي ذا سمعة عالمية , وبالتالي فدعوة الرئيس الفرنسي التي ندد بها الأزهر الشريف وشخصيات إسلامية معروفة وإن لم تجد تنديداً سياسياً فهذا لا يعني أنها دعوة غير مُنكرة , كل ما في الأمر أن الرئيس الفرنسي أفرغ شحنة غضب من أمور أخري ولم يجد إلا المسلمين ليفعل ذلك معهم ولو أنه أمعن نظره الضعيف لوجد أنه هو الذي بحاجة لإعادة هيكلة ومعه بيته فرنسا التي مازالت سادرة في نوم يروادها إستعادة الأحلام الإستعمارية .
7- إن فرنسا والفرنسيين معروف عنهم تحريهم للتقاليد والقواعد المُنضبطة لفن اللياقة أو ما يُسمي Etiquette ويُعتبر الرئيس Macron في خطابه مثالاً للإستثناءات القليلة من بين الرؤساء الفرنسيين في الخروج عن قاعدة تحري اللياقة أو الـ Etiquette إذ أنه يتكلم عن دين له أعظم الإسهامات في الحضارة البشرية وليس هناك من داع للقذف به في معترك السياسة بآثامها التي لفرنسا فيها القدح المُعلي , وسوف لا أقارن الرئيس Macron بأسلافه من كثير من الرؤساء الفرنسيين , لكني فقط سأقارنه بالرئيس الأمريكي السابق Barak Obama عندما تحدث عن الإسلام في خطابه التاريخي الذي وجهه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة في 4 يونيو 2009 وأورد فقط 3 فقرات منه لمعرفة والتأكد من القدر المُتدني من اللياقة الخطابية للرئيس الفرنسي :
(1) نني أدرك بحكم دراستي للتاريخ أن الحضارة مدينة للاسلام الذي حمل معه في أماكن مثل جامعة الازهر نور العلم عبر قرون عدة الامر الذي مهد الطريق أمام النهضة الاوروبية وعصر التنوير , ونجد روح الابتكار الذي ساد المجتمعات الاسلامية وراء تطوير علم الجبر وكذلك البوصلة المغناطسية وأدوات الملاحة وفن الاقلام والطباعة بالاضافة الى فهمنا لانتشار الامراض وتوفير العلاج المناسب لها , حصلنا بفضل الثقافة الاسلامية على أروقة عظيمة وقمم مستدقة عالية الارتفاع وكذلك على أشعار وموسيقى خالدة الذكر وفن الخط الراقي وأماكن التأمل السلمي , وأظهر الاسلام على مدى التاريخ قلبا وقالبا الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة ما بين الاعراق .
(2) منذ عصر تأسيس بلدنا ساهم المسلمون الامريكان في اثراء الولايات المتحدة لقد قاتلوا في حروبنا وخدموا في المناصب الحكومية ودافعوا عن الحقوق المدنية وأسسوا المؤسسات التجارية كما قاموا بالتدريس في جامعاتنا وتفوقوا في الملاعب الرياضية وفازوا بجوائز نوبل وبنوا أكثر عماراتنا ارتفاعا وأشعلوا الشعلة الاولمبية , وعندما تم أخيرا انتخاب أول مسلم أمريكي الى الكونغرس فقام ذلك النائب بأداء اليمين الدستورية مستخدما في ذلك نفس النسخة من القران الكريم التي احتفظ بها أحد ابائنا المؤسسين توماس جيفرسون في مكتبته الخاصة.
(3) انني اذن تعرفت على الاسلام في قارات ثلاث قبل مجيئي الى المنطقة التي نشأ فيها الاسلام , ومن منطلق تجربتي الشخصية استمد اعتقادي بأن الشراكة بين أمريكا والاسلام يجب أن تستند الى حقيقة الاسلام وليس الى ما هو غير اسلامي وأرى في ذلك جزءا من مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة حتى أتصدى للصور النمطية السلبية عن الاسلام أينما ظهرت .
السفير بلال المصري كاتب مصري