الله أعلم كيف اتفق بوتين مع إردوغان على تقرير مصير ليبيا أو بالأحرى تقاسمها برضا أميركي أو من دونه كما تم ذلك شرق الفرات.
اعترف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال الأيام القليلة الماضية بتكليف جنرال تركي لقيادة العمليات العسكرية التركية في ليبيا وقال إن قواته أرسلت إليها 35 عسكرياً على أن يلحق بهم آخرون مع عناصر من مجموعات مختلفة.
تبيّن في ما بعد أن هذه المجموعات من "الثوّار" السوريين الذين فشلوا في سوريا فتحوّلوا إلى مُرتزقة مقابل حفنة من الدولارات وجواز سفر تركي، على حد قول نائب رئيس الوزراء السابق وأحد مؤسّسي العدالة والتنمية عبداللطيف شنار.
كما افتتح إردوغان السبت الماضي المبنى الجديد لجهاز المخابرات الوطنية باحتفالٍ ديني وسمّي بـ"القلعة"، وقال "إن الجهاز حقّق نجاحات عظيمة في سوريا وهو سيكرّر ذلك في ليبيا".
واعتبرت أوساط أمنية وسياسية الافتتاح "خطوة عملية على طريق تحويل تركيا إلى دولة استخباراتية"، إذ سبق لإردوغان أن قال عن رئيس الجهاز هاكان فيدان "إنه أمين سرّه وصندوقه الأسود".
ومن دون أن يهمل إردوغان الذي أشار إلى احتمالات مرور السفن الأميركية الحربية من قناة اسطنبول الجديدة باتجاه البحر الأسود، وهو ما سيزعج بوتين الحديث عن سبب اهتماماته بليبيا حيث قال "إن البترول والغاز من أحد هذه الأسباب بالإضافة إلى التاريخ الذي يتغنّى إردوغان بذكرياته دائماً".
فقبل دخول السلطان سليم سوريا في 24 آب/ أغسطس 1516 والقاهرة في 22 كانون الثاني/ يناير 1517 بسنوات استنجد أهالي طرابلس بالسلطان سليمان القانوني ليحميهم من اعتداءات الأسبان، فأرسل إليهم سفنه التي وصلت الشواطئ الليبية اعتباراً من 1525 فسيطرت على طرابلس والشمال الليبي بأكمله عام 1552.
واستمر الحكم العثماني لليبيا حتى 1911 حيث وقّعت إسطنبول على إتفاقية أوشي مع روما فتخلّت عن ليبيا لإيطاليا، فيما استمر مصطفى كمال أتاتورك وعدد من رفاقه في الجيش العثماني في دعمهم للشعب الليبي الذي ناضل ضد الاحتلال الإيطالي.
وجاءت ثورة العقيد القذافي في أيلول/ سبتمبر 1969 لتفتح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا وليبيا، ففتح القذافي المُعجَب بأتاتورك أبواب بلاده على مصراعيها أمام الشركات التركية التي نفّذت حتى عام 2011 ما قيمته 30 مليار دولار من المشاريع الإنشائية.
وكان دعم القذافي لتركيا خلال تدخّلها العسكري شمال قبرص عام 1974 أكثر أهمية بالنسبة للشارع الشعبي التركي، وخلافاً للساسة الأتراك الذين نسوا هذا الدعم فأيّدوا في عهد تورغوت أوزال القصف الأميركي لبيت القذافي في نيسان/ أبريل 1986 كما أيّدوا في عهد إردوغان القصف الأميركي والفرنسي والإيطالي لليبيا في نهاية شباط/فبراير 2011.
وتتالت الأحداث في ليبيا فنجحت أنقرة في إقامة وتطوير علاقات مُتشابِكة مع المجموعات الإخوانية الليبية وفي مقدّمها مجموعة عبدالحكيم بلحاج الذي تعتبره الأوساط العسكرية "ذراع تركيا الطويلة والخطيرة والمتشعبة" في ليبيا، طالما أنه الأقوى بفضل الدعم المالي والعسكري والاستخباراتي الكبير الذي يلقاه من جميع الأجهزة والمؤسّسات التركية والقطرية منذ 2011، وهو ما أشار إليه أستاذ العلاقات الدولية البروفسور إلهان آوزكال الذي تحدّث "عن دور المخابرات التركية والقطرية والسودانية في جمع المرتزقة من أفريقيا ليقاتلوا إلى جانب المجموعات الإخوانية في ليبيا"، واصفاً تركيا "بأنها أداة نقل هذه المجموعات بعد أن كانت ممراً للإرهابيين الأجانب إلى سوريا".
ولعبت علاقات أنقرة هذه دوراً أساسياً في إقناع أو إجبار السرّاج على توقيع الاتفاق الأخير مع الرئيس إردوغان الذي أثبت بتصريحاته ومواقفه الأخيرة إنه جاد في كل ما قاله وسيقول وسيفعله في ليبيا التي بات واضحاً أنه يريد لها أن تكون قاعدته الاستراتيجية للانطلاق منها إلى الجوار الليبي، أي مصر وتونس والجزائر والسودان وموريتانيا، "وبقواها الإخوانية" التي وضع إردوغان من أجلها العديد من الخطط والمشاريع كما فعل ذلك في سوريا.
وتثبت تصريحات ومواقف إردوغان أن التواجد التركي بكل مؤسَّساته في ليبيا لن ينتهي، كما إنه لن ينتهي بعد التدخّل العسكري المباشر في ليبيا بعد التفويض الذي حصل عليه من البرلمان.
وتتحدَّث المعلومات عن استعدادات كبيرة لإرسال قوات عسكرية تركية ضخمة مدعومة بمجموعات من المقاتلين السوريين والأجانب لتساعد السراج وحلفائه للدفاع عن طرابلس، وقبلها مصراتة، بعد سقوط سرت، وهو ما قد يدفع إردوغان لإرسال الجيش فوراً بعد التأكّد من نوايا الرئيس بوتين في هذا الموضوع الذي كان المادة الأساسية خلال مباحثات الثنائي في اسطنبول، حيث ناشدا الأطراف المتقاتلة بوقف إطلاق النار اعتباراً من ليلة الأحد.
ولم يهمل إردوغان الجانب الدبلوماسي، تارة مع بوتين وأخرى مع ترامب، لفرض نفسه على طاولة المفاوضات من أجل الحل النهائي للأزمة الليبية، ليساعده ذلك على فرض نفسه على مجمل المعادلات الإقليمية والدولية، وكما فعل ذلك في سوريا.
فالجميع يعرف أن ما يهدف إليه إردوغان من خلال السراج والفصائل الإخوانية، بل وحتى بعض العشائر التي أقنعها بأنها تركية الأصل كعشيرة الأورفللا، هو الحصول على حصة الأسد من النفط الليبي (50 مليار برميل) والغاز الليبي (20 تريليون متر مكعب) وهي كافية لمساعدة إردوغان لحل مشاكل بلاده المالية خاصة إذا نجح السراج بعد انتصاره أو التوصّل إلى حل سياسي للأزمة في إقناع الأمم المتحدة بالإفراج عن الأموال الليبية المُجمّدة منذ 2011 وهي حوالى 200 مليار دولار، وهي تستحق إرسال الجيش التركي بأكمله لاستعادتها وتحويل الجزء الأكبر منها لحساب الشركات التركية، التي حينها، ستساهم في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الليبية.
ويتوقّع بعض المراقبين أن يلوِّح إردوغان بورقة اللاجئين الليبيين في مساوماته مع الدول الأوروبية، مُهدّداً إياها بإرسال اللاجئين الليبيين والأفارقة إليها إذا استمرت في مواقفها العدائية ضد أنقرة.
كما لا يستبعد بعض المراقبين أن يستغلّ إردوغان انتصاره المُحتَمل في ليبيا في حربه السياسية والنفسية لفرض نفسه على الإسلاميين "بصفته الزعيم الإسلامي الوحيد الذي يحمل راية الإسلام ويدافع عنها في جميع أنحاء العالم".
فبعد الشرق الأوسط، أي سوريا والعراق ولاحقاً اليمن ولبنان بل وحتى الأردن، ها هو الآن في الشمال الأفريقي وعبره باتجاهين، الأول وسط أفريقيا، والثاني أوروبا، حيث الملايين من المسلمين من أصل تونسي وجزائري ومغربي في فرنسا وبلجيكا وألمانيا ودول أخرى فيها مجتمعة حوالى 5 ملايين تركي لا يُستهان بهم في مجمل الحسابات التركية أوروبياً ودولياً وأي كان شكلها اقتصادياً ومالياً وأمنياً واستراتيجياً ونفسياً.
مع الانتباه لظاهرة صعود التيار القومي العنصري في العديد من الدول الأوروبية، والسبب في ذلك سياسات الرئيس إردوغان القومية والدينية، وبالتالي انعكاسات هذه السياسات على قضية اللاجئين بعد ما يُسمّى بالربيع العربي، الذي سعى إردوغان من خلاله لإحياء ذكريات الدولة العثمانية وتاريخها سيّئ بالنسبة للأوروبيين.
وكانت "إسرائيل" ومازالت المستفيد الأكبر من هذا الربيع فتنفّست الصُعداء بعد تدمير سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن وبنسب أقل مصر ولبنان وتونس، وأخيراً اغتيال أميركا لكل من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
وكان الرئيس إردوغان المستفيد الآخر من هذا "الربيع" ويعتقد أنه ساعده على تطبيق مُخطّطاته ومشاريعه الشخصية والتاريخية التي يريد لها "أن تجعل من تركيا دولة عظمى تنافس الجميع"، بغياب الدور العربي الفاشل وتراجع دور المُنافِس التقليدي التاريخي إيران، وتعادلها أميركا و"إسرائيل" ودول الخليج وهي بعيدة أيضاً عن الساحة الليبية التي وضع الغرب لها العديد من السيناريوهات ولكن احتاط لها إردوغان.
فهو يعتقد بل يؤمن أنه الأقوى خاصة في وجه أعدائه المعروفين كالسعودية ومصر والإمارات ويستهزئ بقادتها يومياً، وهو يعرف أنهم لا يجرؤون للرد عليه طالما "أنهم ضعفاء وجبناء"، والقول لإردوغان وإعلامه الذي يتغنّى بالانتصارات العظيمة لزعيمه الذي يتحدّى العالم طالما أنه صديق بوتين الذي أثبت بعلاقاته مع إردوغان أن ما يهمّه هو أن تكون أنقرة مُقرَّبة من موسكو أكثر من واشنطن حتى لو كان ذلك على حساب سوريا، والآن في ليبيا والله أعلم كيف اتفق بوتين مع إردوغان على تقرير مصيرها أو بالأحرى تقاسمها برضا أميركي أو من دونه وكما تم ذلك شرق الفرات!.
المصدر : الميادين نت